بفارق 47 عاماً، تجددت شهادة الأرض في يارين الحدودية (قضاء صور – جنوبي لبنان). في الثاني من تموز عام 1977، هاجم الجنود الإسرائيليون وعملاؤهم عدداً من الأهالي وهم يعملون في حقول القمح. وفي التاريخ نفسه، يوم الثلاثاء الماضي، دمرت إسرائيل منزل محيي الدين أبو دلة فوق رأسه في الزلوطية، بعدما أنهى عمله في حصاد القمح. شهادته كانت متوقعة طوال الأشهر الماضية. منذ بدء العدوان، لم ينقطع عن الذهاب يومياً إلى الزلوطية ويارين وجاراتها. يقود محراثه أو جراره أو حصادة ودراسة القمح ويجول بين الحقول في الجبّين والضهيرة وطيرحرفا وشيحين...، يحرثها ويزرعها ويحصدها. بحسب صبحي أبو دلة، رفض شقيقه نصائح العائلة للانقطاع عن المنطقة بعد تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية. «كانت الأرض أهم من حياته. كان يهتم بأرضه الخاصة وبأراضٍ أخرى اضطر أصحابها إلى النزوح وتكفل هو بها».أول من أمس، أُودع أبو دلة (52 عاماً) في تراب مقبرة يارين قبالة المواقع الإسرائيلية المعادية. وبسبب العدوان، أقيمت مراسم تقبل العزاء في «حي العرب» في البابلية (قضاء صيدا). الرابط بين آل أبو دلة والحي ليس وليد أزمة النزوح الأخيرة. إلى هنا، وصل أبو دلة قبل 47 عاماً تماماً، مهجراً مع بعض أهالي يارين، عقب وقوع المجزرة وهدم البلدة وتهجيرها. في هذا الحي، نشأ طفلاً نازحاً لم يتعرف إلى مسقط رأسه، سوى عام 1984 بعد احتلالها من قبل العدو الإسرائيلي بستة أعوام. صمد في يارين ومنها تطوع في قوى الأمن الداخلي وشيد منزلاً في الزلوطية وأسس عائلة. تقول ابنته رانيا (26 عاماً) إن والدها «التصق طوال حياته بيارين وعلمنا التعلق بها رغم كل المخاطر». في عدوان تموز 2006، أرسل أسرته إلى منطقة آمنة وهو بقي في مركز خدمته في مخفر رامية. «مرت عليه أيام صعبة وكان قريباً من الموت بشكل دائم. لكنه رفض ترك المخفر».
بعد تقاعده كرقيب أول عام 2014، تفرغ للزراعة. اشترى أدواتها وزرع التبغ ثم القمح والحبوب. إصراره على الصمود تكرر في العدوان الحالي. «كنا نرجوه يومياً لئلا يتوجه نحو يارين ومنطقتها بعد أن وافق على النزوح إلى البرج الشمالي حيث أسكن. لكنه رفض التوقف عن العمل. كانت أولويته بأن يهتم بالأرض ويؤمن مدخولاً مادياً للعائلة لأن المعاش التقاعدي لا يكفي». في ذلك اليوم، غادر نحو يارين في الصباح الباكر كالمعتاد. تنقل بين حقول القمح وعاد بالحصّادة نحو مرآب منزله بمفرده. في آخر اتصال مع العائلة، أعلمهم بأنه سيتأخر عن موعد عودته المعتاد عند الظهر، لأنه سيصلح عطلاً في الحصادة. نفذ العدو الإسرائيلي الغارة بينما كان يعمل في المرآب الواقع في الطبقة السفلية من المنزل.
خسرت الأسرة الصغيرة عامودها. زوجة أبو دلة، عبير الناصر التي تشاركت معه في زراعة التبغ وتربية أربعة أبناء، صارت أرملة شهيد، فاقدة منزلها الذي شيداه من عرق وجنى الأرض. الجريمة الإسرائيلية المزدوجة، استحضرت ما تعرضت له البلدة في تموز 1977، بسبب دعم أهلها للمقاومة الفلسطينية. حينها، أعدم جنود العدو وعملاؤهم 16 مزارعاً، فيما نجا آخرون اختبأوا بين سنابل القمح وشتول التبغ. تُركت أجساد الشهداء في العراء وأجبر الأهالي على المغادرة فوراً. وبعدها أغار الطيران على المنازل. وفي وقت لاحق، جرف بعضها وحول يارين إلى حقل للتدريب والرماية.