والشابّة التي انتمت فكرياً وسياسياً إلى الفكر الماركسي أثناء الحرب في بيروت، لم تتغيّر كثيراً. هي ترى وجود قيم مشتركة بين الماركسيّة والبوذيّة، فـ «البوذيّة فلسفة تعتمد على علوم الفكر، لتشكّل فكراً خالياً من السموم، وكذلك الماركسيّة تعتمد على العلم والمنطق للسعي إلى مجتمع سليم».
بيروت هي المكان الوحيد الذي يشعرني بالانتماء (س. م)
«تفاجأ بعض الأصدقاء من خياري بأن أصبح راهبة بوذيّة، ظنّاً منهم أنّهم يعرفونني جيداً، أمّا أنا، فلم أفاجأ من قراري». تصف مانوكيان التي باتت تفضّل أن تنادى باسمها البوذي «آني بيما تسولتريم درولما»، تفاعل أصدقاؤها مع قرار اعتناقها البوذيّة. فهي ترى أنّها كانت تتصرف كبوذيّة بفطرتها من دون إدراك مفتعل منها. وتضرب مثالاً ما حدث معها قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانيّة عام 1975، حين وقع بين يدي مانوكيان كتاب يحتوي على بعض الحسابات الرياضيّة، واستنتجت الفنّانة عبرها، أنّ الكون واحد، وجميعنا واحد. تملّك النور والسلام قلب سيتا وقتها، وانفجرت الألوان الزاهية على لوحاتها. تقول إنّ ما توصلت إليه، جعلها تتعامل بحالة إنسانيّة هادئة مع الحرب، فصوّرت الحرب بألوانٍ هادئة أيضاً. وبعد عشر سنوات على الحرب، سئمت مانوكيان من السياسيين وتحليلاتهم، فغادرت مع عائلتها إلى لوس أنجليس حيث عرضت أعمالها في صالاتها الفنيّة. لكن السفر لم يتمكن من سدّ الفجوة التي حُفرت في قلب الفنّانة بعد فراقها لبيروت، فاهتدت إلى التأمّل في منتصف التسعينيات، والتقت بمعلمها الأوّل، بانتي لاكانا، الذي منحها أساسيات التأمّل وساعدها على التعمّق في البوذيّة. وفي عام 2005، انقطعت كليّاً عن الرسم، وتفرغت للتأمّل نحو ثماني ساعات يوميّاً. وسافرت إلى سيريلانكا، حيث أصبحت راهبة، وزارت النيبال، وعادت إلى لوس أنجليس لتنضم إلى معبد بوذي في المدينة، واستمر انقطاعها عن الرسم مدّة عشر سنوات، ثمّ عادت إلى ممارسته عام 2016.
أثارنا الفضول لسؤالها عن السنوات العشر التي انقطعت خلالها عن الرسم، فأجابت بأنّها كانت لا تقبل أن تستمع إلى الأحاديث المتعلقة بالفنون، وكانت تحجب عينها عن رؤية الأعمال الفنيّة وكل ما يذكرها بها، إذ لم تشأ أن تشعل الشوق الذي بداخلها تجاه الرسم، وفضلت أن تكرّس كل وقتها للعبادة والتأمّل. ومع عودتها إلى الرسم، نسألها عما إذا كان هدفها من هذه الممارسة قد تغيّر بعد التجارب التي مرّت بها، فتجيبنا: «لم يتغيّر شيء، حين اندلعت الحرب في بيروت، كنت أرسم كي أتحرّر من سجني، واليوم أرسم لأتحرر من سجن الحياة».
بيروت التي هجرتها مانوكيان منذ زمن، هي أيضاً بيروت التي أحبّتها، وعرضت في صالاتها وشاركت في تحركاتها الثقافيّة والسياسيّة، وأضافت لها وهجاً في سبعينيات القرن الماضي. لدى سؤالها عن الحنين إلى بيروت، تجيب بأنّها المكان الوحيد الذي تشعر فيه بأنّها في بيتها، فـ «الشعب اللبناني يتصرف على طبيعته، ويحب المزاح. لو لم أكن بوذيّة، لما استطعت العيش في لوس أنجليس، سكّانها متصنعون، وحين أمازحهم لا يعرفون ماذا يجيبون. لكن البوذي لا يهتم، يستطيع أن يعيش في أي مكان. بيروت هي المكان الوحيد الذي يشعرني بالانتماء، إضافة إلى أصحابي البوذيين الذين أنتمي إليهم».