تحتضن غاليري «مرفأ» ثلاثين لوحة للرسّامة العريقة سيتا مانوكيان (1945) المقيمة منذ عقود في لوس أنجليس والباقية مع ذلك جزءاً من ذاكرة بيروت الفنية والثقافية. قبل إقفاله منذ سنين طويلة، كان نزلاء مقهى «الإكسبرس» في أول شارع الحمرا يصادفون الفنانة الودودة والمتحرّرة مانوكيان جالسة إمّا وحدها أو برفقة صحافيين وكتّاب وشعراء وفنانين. هي تنتمي إلى روح المدينة ونبضها، ثمّ إلى زمن حربها الأهلية المأساوية التي كانت تيمةً أساسية في عدد كبير من لوحاتها في السبعينيّات والثمانينيّات.
«لنكن حاضرين معاً» (أكريليك على كانفاس ـ 42 × 101 سنتم ـ 2016)

ومنذ التسعينيات إلى اليوم، تعيش سيتا مانوكيان تجربة روحية فريدة مع الإفصاح عن اعتناقها البوذيّة وتحوّلها تيماتيّاً وأسلوبيّاً في اللوحة صوب أبعاد رمزية روحانية مسالمة، ومعرضها اليوم في بيروت تحت عنوان «قطرات الندى» ينتمي إلى هذه الوجهة التيماتيّة الجديدة. استطراداً، يروي الكاتب طلال شتوي طرفةً عن مانوكيان في مقهى «الإكسبرس» حين كانت تجلس إلى طاولتها، فيما يجلس الشاعر الراحل صفوان حيدر إلى طاولة قبالتها من دون أن يتعارفا أو يخوضا أي حديث طوال سنوات من التجاور اليومي في المقهى. ولمّا ذاع خبر أنّ سيتا ستهاجر من لبنان، نهض الشاعر «الجار» وتوجّه إلى طاولة الرسامة التي تحلّق حولها الأصدقاء الذين فوجئوا باقترابه منها قائلاً: «أظن أنّه آن الأوان لكي نضع حداً لهذه العلاقة»، فانقلب الجميع على ظهورهم ضحكاً.
طفلةً، تدرّبت مانوكيان على يد الفنان الرائد بول غيراغوسيان، والتحقت شابة بأكاديمية الفنون الجميلة في روما. وفي السبعينيّات من القرن الفائت، حاضرت كأستاذة للرسم في الجامعة اللبنانية. امتدّت مسيرتها الفنية خمسين عاماً أقامت فيها معارض في أبرز صالات بيروت ثم في الصالات الأميركية، وكانت وجهاً أيقونيّاً في العاصمة اللبنانية وجزءاً من وهجها الفكري والثقافي منذ مرحلة ما قبل الحرب. غادرت بيروت عام 1985 إلى لوس أنجليس فوجدت نفسها في فضاء عيش بارد خالٍ من دفء الصداقات، فلجأت إلى التأمل والتقت معلّمها الأول بانتي لاكانا الذي لقّنها أساسيّات التأمّل وأرشدها إلى البوذية.
كانت الحرب الأهلية تيمةً أساسية في لوحاتها خلال السبعينيّات والثمانينيّات


هذه الانعطافة نحو بوذيّة سيتا مانوكيان وثيقة الصلة بمعرضها الجديد اليوم في بيروت، كونه ثمرة مرحلتها الروحانية الجديدة التي بدأت في التسعينيّات. واللوحات المعلّقة في غاليري «مرفأ» تنتمي إلى المرحلة الجديدة المفترقة عن مراحل البدايات بمواضيعها ورموزها ومفرداتها. في السبعينيّات، انتمت مانوكيان إلى فئة الرسامين الملتصقين ببيروت، أمثال أمين الباشا، فكانت المدينة بمقاهيها وناسها وشاطئها وشوارعها وبيوتها ماثلة في لوحاتهم، حتى وقوع الحرب عام 1975 فتعكّر مزاج تلك التجربة وصفاؤها. انقسمت بيروت على ذاتها وحارب نصفها النصف الآخر، وعصفت الحرب العنيفة بهناء الفنانين والأدباء، وكان الوقع قاسياً على مانوكيان ورفاقها فاشتدت تأملاتها في معاني الحياة والموت وحدث التحوّل. غاب التفاؤل عن لوحتها، إذ لم يعد الناس سوى ضحايا الحرب وميليشياتها ومعابرها، فحضرت بيروت في أعمالها بوجه مختلف.

«مباهج الحياة» (أكريليك على كانفاس ــ 127 × 66 سنتم ـ 2016)

فرض العنف المهيمن نفسه. قصف ودمار ورصاص، قتلى وجرحى، شوارع مقفرة. تاهت لوحة مانوكيان بين الحجر والناس، فرسمت الأبنية المتشظية والتقطت حركات الأجساد في الطرقات، خائفة مذعورة، دخلت ريشتها أيضاً إلى غرف المستشفيات، المكان الأكثر تعبيراً عن الألم، وعن الجرحى الذين يفدون في كل لحظة، وعن الأجساد الملقاة فوق الأسرّة، ووجوه المصابين، بخطوط تبلغ حدّ التجريد الدالّ على التهشّم، وتكوينات تسكنها أطياف ضحايا الحرب. بقيت مانوكيان ترسم بيروت، إنّما ليست بيروت التي أحبّت دِفأها وسكونها وبهاءها وكل تفصيل فيها.
أولى مراحل مانوكيان في الرسم مرحلة T_Shape في تكوين لوحاتها واضعة الناس أفقياً في اللوحة كأنهم معلّقون في الهواء. لكنها لم تمكث فيها طويلاً، فأتت «المرحلة البيضاء» عقب اكتشافها التأمل وقبل أن يعلّمها إيّاه أحد. جلست أمام بياض اللوحة ورأت الفراغ الذي يشبه الرقم صفر، فأضحى الفراغ أساسياً في لوحاتها، فاللوحة تنبع من الفراغ. أصبحت الخلفية دوماً بيضاء، ومنها يطلع كل شيء إلى سطح اللوحة، إلى الأعلى. كانت مانوكيان بوذيّةً قبل أن تعرف ما هي البوذية. كانت تحسّ بالنيرفانا والعدم قبل التعمّق فيهما. كانت تلجأ في لوحات الحرب إلى الألوان الحادة والقوية، فأتى البياض ليهدّئ من حدّتها ويخفّف من حرارتها. وفي المرحلة الأميركية، التي تشكّل معرض سيتا مانوكيان اليوم في بيروت، اتجهت الفنانة إلى المواد العضوية، إلى الطبيعة، إلى الحجر، والبيض (علامة الخصب) والخبز والورد، والماء الذي تغتسل به من حروب بيروت الأهلية، إنّما كذلك من قسوة الحياة في لوس أنجليس حيث لم تندمج في مجتمع لا يمكن محاورة ناسه السطحيين الذين لا يتكلمون إلا عن حيواناتهم الأليفة أو عائلاتهم ولا يمكن الخوض معهم في أي موضوع عميق. هكذا، كان لجوؤها إلى البوذية، هرباً من ماضٍ ومن راهن. ولذا كان هذا التحوّل في عناصر لوحتها الساكنة، الرمزية، المريحة للعين وللنفس، ودوماً على خلفية بيضاء. الأبيض لون المستنير بوذا... لون السكينة الداخلية التي سعت إليها سيتا مانوكيان في حياتها ولوحاتها معاً.

«قطرات الندى»: حتى أيلول (سبتمبر) 2024 ــ غاليري «مرفأ» (بيروت) ـ للاستعلام: 01/571636