حيوية مؤقّتة سوف توفّرها الانتخابات الرئاسية الإيرانية المرتقبة لثنائية المحافظة (1) والإصلاح، بعدما خرجت هذه الثنائية عن فعاليتها التقليدية وبدأت الدخول في مرحلة الأفول، وذلك مع خروج الرئيس الإصلاحي (الوسطي) حسن روحاني من السلطة في عام 2021 من دون أن يستطيع إثبات أنّ الرافعة الإصلاحية قادرة على إخراج البلاد من أزماتها، وبالتالي خُفوت وهج التيار الإصلاحي برمّته. إذ مهّد ذلك، في المقابل، لوصول الرئيس المحافظ السيد رئيسي إلى سدّة الرئاسة؛ فكان لافتاً أنّ هذا الأخير قد شغل منصب الرئاسة بهوية قيميّة محافظة، ولكن بتوجّهات عملية إصلاحية جامعة، فأسّس بذلك لكسر حدّة الاستقطاب الثنائي، عبر التأسيس لسلطة ذات مشروعية من المحافظين وتحظى، في الوقت نفسه، بمقبولية واسعة من جمهور الإصلاحيين. ففي ظلّ عجز التيار الإصلاحي (بما فيه الاتجاه الوسطي) عن تحقيق الحدّ الأدنى من شعاراته الإصلاحية خلال إمساكه مقاليد السلطة التنفيذية على امتداد أربع ولايات رئاسية (خاتمي وروحاني)، مع حرصه المستديم على البقاء تحت سقف النظام؛ مقابل أنّ التيار المحافظ بات، بحكم الرضوخ لمقتضيات الواقع، متصالحاً مع الكثير من شعارات الإصلاح، وفي بعض الأحيان متبنّياً لها، تحت عنوان عدم القدرة على تجاهل الضرورات الموجبة للخوض موضوعياً في المسارات الإصلاحية. كل ذلك، كان من شأنه أن يضع الجمهورية الإسلامية على أبواب مرحلة جديدة من الانتظام السياسي، عبر الدمج بين ثنائية الإصلاح والمحافظة كمقدّمة لتجاوزها، وتمهيداً للاتجاه نحو اصطفافات سياسية جديدة تقوم على توليفات مستحدثة، ينبثق عنها ما يمكن تسميته بـ«الوسطية الجديدة».
في الأصل، ليست هي المرّة الأولى التي يتمّ عبرها إعادة تشكّل التيّارات الفاعلة وانتظامها تحت لواء الثورة الإسلامية. ففي بدايات الثورة، تمّ التحوّل من التعدّدية الحزبية الموزّعة بين أحزاب موالية للثورة (الحزب الجمهوري، المؤتلفة، فدائيان إسلام، مجاهدي الثورة، الطلبة السائرون،...) نحو ثنائية علمائية ظلّت حاكمة على المشهد السياسي في إيران ما يقارب العقدين، وهي موزّعة بين يمين، ممثّلاً بجماعة «الرابطة العلمائية المناضلة» (روحانيت)، ويسار، ممثلاً بجماعة «رابطة العلماء المناضلين» (روحانيون) (2).
الجماعة الأولى، كانت أقرب إلى النمط المعتدل في تفكيرها وأدائها، ثمّ ما لبث أن تحوّل كثير من قياداتها إلى رموز في التيار المحافظ الذي تبلور عملياً في أواخر التسعينيات (آية الله مهدوي كني، موحدي كرماني، ناطق نوري). كما أن فريقاً آخر من هذه الجماعة خرج عنها وأسّس لاحقاً ما عرف بالتيار الوسطي (رفسنجاني وروحاني و...).
فيما عرف عن الجماعة الثانية، أي «الروحانيون»، تشدّدها الثوري والعقائدي. غير أنّ المفارقة تكمن في التحوّل اللاحق لدى معظم رموزها نحو «الانفتاح والاعتدال» ( كروبي، خاتمي، محتشمي،...)، بدءاً من أواسط التسعينيات، وذهابهم إلى تأسيس التيار الإصلاحي بمعظم أحزابه ومكوناته.
فارق الأصوات الذي تحقّق في الجولة الأولى من الانتخابات (3 ملايين صوت تقريباً) لمصلحة الفريق الأصولي/المحافظ، ليس بالضرورة أن يتحوّل تلقائياً لمصلحة المرشّح جليلي


من هنا، يبدو أنّ الانتخابات هذه المرّة ستشكّل مرحلة انتقالية بين مرحلتين من عمر الجمهورية الإسلامية، حيث سيتمّ عبرها التحوّل مجدّداً وتدريجياً من حيّز «الثنائية» القائمة بطرفيها الأصولي والإصلاحي، إلى حيّز التعدّدية القائمة على ضبط الاختلافات، مترافقاً مع كل ما من شأنه تحقيق المصلحة العامّة تحت سقف النظام والحفاظ على الثوابت والمبادئ.
ورغم امتياز إيران الإسلامية بالقدرة على التحمّل والتأقلم - أي تحمّل الضغوط والتأقلم مع المتغيّرات - غير أنّ الانتخابات هذه المرّة تعتبر الأكثر حساسية لكونها متزامنة مع تحوّلات خارجية مفصلية، من المرجّح أن تضع إيران أمام تموضع إقليمي جديد، وفقاً لمعادلات مستحدثة قائمة على نموّ الحجم وتصاعد الدور وارتقاء الحضور وثقل المواجهة. وذلك مقابل تحدّيات داخلية حقيقية، تقوم على ضرورة تحقيق ما أمكن من مستلزمات التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والإصلاح الإداري، ومكافحة الفساد، والتكامل بين المكوّنات السياسية، في ظلّ كمون جماهيري يراوح بين الرقابة على الأداء والسياسات، والتحفّز للمحاسبة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
لقد أفسحت ولاية السيد رئيسي، رغم قصر مدّتها، المجال أمام إمكان ولادة «الوسطيين الجدد»، حيث فقدت الثنائية التقليدية المعهودة النموذج القادر على الجذب، والمقوّم القادر على إحداث التحوّلات العميقة نحو حلول جذرية للمشكلات والأزمات. إذ بدا واضحاً أنّ الرئيس الراحل كان يتحرّك على مستوى السياسات والإستراتيجيات عبر الجمع بين الأصالة التي تعبّر عن عمق الانتماء الأصولي والمبدئي، والمعاصرة التي تعكس ضرورات الإصلاح والانفتاح. انطلاقاً من ذلك، ثمّة مداخل عدة للحديث عن هذه الوسطية، لعلّ أبرزها قابلية إمساك العصا من الوسط في المحاور الخلافية بين التيارين الإصلاحي والمحافظ، واعتماد مبدأ الضمّ والجمع حيث لا يترتّب على ذلك أي تناقض أو اختلال. ذلك أن ثنائية المحافظين والإصلاحيين في إيران قامت على الاختلاف والتباين في خمسة مجالات أساسية (5) موزعة ضمن ثنائيات فرعية محددة، وهي ليست قائمة بالضرورة على التعارض والتضادّ، بل قابلة للتشكّل وإعادة الإنتاج وفقاً لتوليفات على قاعدة الحدّ الأوسط بين الجانبين.
ملاحظة على الهامش
إلى ما تقدّم، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ فارق الأصوات الذي تحقّق في الجولة الأولى من الانتخابات (3 ملايين صوت تقريباً) لمصلحة الفريق الأصولي/المحافظ، ليس بالضرورة أن يتحوّل تلقائياً لمصلحة المرشّح جليلي، بنحو يجعل فوزه مضموناً. إذ من الأخطاء الشائعة القول إنّ كلّ هذه الأصوات قابلة للتجيير أصولياً، وفي هذا الإطار يجدر التوقّف عند ما يلي:
• نسبةٌ من أصوات قاليباف لَم تُعطَ له لكونه محافظاً أصولياً، بل أُعطيت له لاعتبارات شخصية ومحلية وخدماتية، وبالتالي هي أصوات لا يمكن احتسابها في خانة المعسكر الأصولي.
• كلّ الأصوليين شاركوا في الانتخابات (أو بالحدّ الأدنى غالبيتهم الساحقة)، ولكن ليس كلّ الإصلاحيين شاركوا، ما يعني أنّ الأصوليين قد استهلكوا الحدّ الأقصى من طاقتهم الانتخابية، بينما الإصلاحيون الذين ظلّوا متفرّجين كانوا يترقّبون مجريات الجولة الأولى لتحديد موقفهم من الجولة الثانية.
• ثمّة إمكانية لاستقطاب قسم من الرماديين نحو المشاركة في الدورة الثانية، وهؤلاء بمعظمهم من الإصلاحيين أو المستقلّين الأقرب إليهم.
• كان واضحاً تقدّم بزشكيان على جليلي في النقاط خلال المناظرتين اللتين تلتا الجولة الأولى للانتخابات.
لذا، من المتوقّع أن ترتفع نسبة المشاركة من الأربعين في المئة إلى ما يقارب الخمسين في المئة، وهذه الزيادة ستكون بمعظمها لمصلحة بزشكيان ما يجعل حظوظه بالفوز أعلى وشبه مرجّحة.

هوامش:
(1) التسمية المتداولة حالياً للتيار المحافظ هي «الأصولي»، إذ أطلق المحافظون هذه التسمية على تيارهم تمييزاً لأنفسهم عن الرئيس أحمدي نجاد الذي كان محافظاً ثم اختلف معهم وخرج عنهم.
(2) الجماعتان كانتا جماعة واحدة تأسّست في عام 1981، ثم انشقت الثانية عن الأولى في عام 1987.
(3) النقاط الخمس هي:
• ولاية الفقيه - بين الشرعية الدستورية والشرعية الدينية.
• الاقتصاد - بين الخصخصة والتبعيّة للدولة.
• الحرّيات العامّة - بين التوسعة والتقييد.
• العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة - بين الريعية والتنمية المستدامة.
• العلاقات مع الغرب - بين الانفتاح النسبي والانغلاق المحدود.

* باحث في الشؤون الإيرانية