في زيارتي الأخيرة إلى لبنان، أهداني الباحث في التاريخ، القنصل خالد يوسف الداعوق، المجلّد الشائق الذي أصدره مع أستاذ التاريخ الراحل حسان حلاق، وعنوانه «النهضة الصناعية والاقتصادية والتجارية في بيروت المحروسة 1840-1914». راقني الكتاب، بما فيه من كلمات ورسوم عن عاصمة، يشهد لها تاريخها كيف كانت تنمو ببطء وخفر وهدوء، حتى جاءها الفرنسيون فطبعوا عمرانها بلمسات من ثقافتهم وحضارتهم، فقبلتها بيروت بمحبة حرة، وأضافتها إلى تراثها المتراكم عبر العصور، وغدت مدينة متواضعة ومتصالحة مع نفسها. كان وجه بيروت نضراً، كوجه صبية ريفية خجول، لا أثر فيه لبثور المدنية وأصباغ التغريب المصطنع، ولم يحدث أن اغترّت في يوم من الأيام، أو تباهت بشيء من الكبرياء الفارغة! كان وسطها التجاري ملتقى اللبنانيين جميعهم؛ ثريّهم وفقيرهم، كبيرهم ووضيعهم، فيه كانت تدور تجارات مختلفة، ويزدهر وطن، وتنمو ألفة وتتوالد محبة، وتموت الفوارق بين الناس، ومنه كانت تنطلق السيارات والحافلات، حاملة البضائع والناس والأشواق، إلى جميع مدن لبنان وبلداته وقراه. كان الناس يأتون إليه من الجبل، ومن الشرق والشمال والجنوب يأتون، ومن دمشق وحلب وحوران البعيدة، ومن دول عربية مختلفة، وكان السائر في أرجائه يسمع خليطاً من لهجات لبنانية مختلفة ومحبّبة، ولغات كردية وسريانية وأرمنية وإيطالية ويونانية وفرنسية وإنكليزية، في مناخ إنساني حميم، جعل بيروت مدينة فريدة من نوعها على ساحل المتوسط.
عن صفحة Old Beirut

بقيت بيروت وفيّة لتاريخها، ضنينة بسمعتها، إلى أن نشبت فيها حرب العبث والجنون. أشعلها «الإخوة» اللاجئون، وأمراء الحروب، ليقضوا على معالمها، ويبنوا من رمادها عروشاً لهم، ثم جاءها الوافدون من حيتان المال، ليُعيدوا بناءها، فأتوا على روحها، بمعاول الهدم السريعة، ساندتهم طبقة من الزبانية والتجار والأجراء، ومن تعاقبوا على إدارة بلديتها. منهم من كان جاهلاً، ومنهم من كان غريباً وصاحب مصلحة، ومنهم البريء ذو النية الطيبة، لكنه يفتقر إلى ثقافة العمران الأصيلة، وبدلاً من أن يحافظوا على المدينة التاريخية القديمة، وما يكتنفها من دقائق الجماليات، خلعوا عليها أكسية حديثة باردة ليرضوا بها مدخني الشيشة، وعشاق المظاهر، من محبي الماركات العالمية، وأصحاب السيارات الفاخرة، وحملة الحقائب الغالية الثمن، وفي ظنهم أن المدن «أجساد»، وأن الجمال في الجسد وحده، فخانوا أنفسهم وخانوا العاصمة في تاريخها وروحها وذاكرتها الجماعية، فتغيّر قلب المدينة التجاري، واكتسب هوية جديدة، وبعدما كان اسمه «البلد»، صار اسمه، ويا للغرابة، «داون تاون»، وصار رغم ما أُنفق فيه من جهد ومال، أشبه بلوحة بلاستيكية لا روح فيها ولا دفء ولا حياة.
أعرف الحجة التي ساقها، وما زالوا يسوقونها من تولوا إدارة «الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت» المختصرة حروفها الأجنبية باسم «سوليدير»، وفحواها أنه ما كان بالإمكان أفضل مما كان، وأن ما حصل في الوسط التجاري من بناء، كان الطريقة الوحيدة للنهوض به. قرأت وسمعت هذه الحجة غير مرة. سمعتها من مقربين، منهم الصديق عبد الرحمن الصلح، الذي كان من الذين شاركوا في تأسيس «سوليدير» وبقي مسؤولاً فيها عن عقود عمليات الشراء، إلى عام 2018. سمعتها أيضاً من الخبير العقاري فيكتور نجاريان، الذي لا يزال حتى اليوم، يتخذ من الوسط التجاري مقراً لنشاطه. لست مقاولاً ولا مهندساً ولا معمارياً، وأعترف أن «نقطة ضعف» تنتابني وأنا أستذكر شوارع مدينة، هي مسقط رأسي ومنشئي ومربع طفولتي وصباي، وأخشى ما أخشاه أن تحول «نقطة الضعف» هذه، بيني وبين معرفة الحقيقة، وبُعدي عن جادة الحكم الصائب، لكني أقطع بأن ما حصل في وسط بيروت، لو حصل في أي مدينة أوروبية، لكانت خطوط إعادة الإعمار فيها اختلفت كلياً. مهما يكن، بيروت ليست المدينة الوحيدة في العالم التي عانت الحروب.


اثناء الحرب العالمية الثانية، تعرضت أمكنة كثيرة في لندن للخراب، لكنّ أعيان إنكلترا لم يهدموا المباني التي أصابتها الطائرات النازية. أعادوا ترميمها على نحو استلهم تراث المدينة وذاكرتها الجماعية، بخلاف ما حصل في وسط بيروت الذي سلخته «ورشة الإعمار» عن ماضيه وتراثه! كانت هناك أخطاء حصلت، وسمعت هذا الرأي، من بيروتيين كثر، تجار ومهندسين ومثقفين، ومن نقيب المهندسين الراحل عاصم سلام، أثناء ندوة عُقدت في لندن في تسعينيات القرن الماضي، حول ورشة إعادة إعمار الوسط التجاري. أذكر أني استجوبت يومها نحو عشرين مهندساً وخبيراً ورجل أعمال، ونقلت أقوالهم على صفحات طوال في صحيفة «الحياة» اللندنية، وكانت تحت عنوان «من يحكم قلب سوليدير يحكم لبنان»!
من الطبيعي أن تتبدل الظروف، وتتغير الآراء وتتباين الأحكام وتختلف المصالح، لكن المؤكد، أن اللبنانيين لم ينعموا منذ «استقلالهم» الموهوم إلى اليوم، بوطن جدّي يُحاسب، لأن القضاء على روح مدينة، أي مدينة، وإهمالها إلى الحد الذي أُهملت فيه بيروت، هو بمنزلة إبادة جماعية، وجريمة لا تُغتفر. من يقتل مواطناً يدخل السجن أو يُعدم، هكذا تنص القوانين، لكن قتل مواطن، أو مجموعة من البشر، ليس شيئاً بالقياس إلى قتل مدينة في ذاتها وهويتها وذاكرتها، وفي هذا الفعل تكمن جريمة قتل جيل حاضر بكامله، وأجيال لم تأت بعد.
ما مضى قد مضى، أو كما يُقال، قد سبق السيف العذل، لكن قد تنفع العودة قليلاً إلى الوراء لإنعام النظر في ما مضى، لأخذ العبر، وتفادي أخطاء قد تحدث في المستقبل، سياسة كان الموضوع أو اقتصاداً، لأن الذين لا يتعلمون من أخطاء التاريخ، محكوم عليهم بتكرارها. كان الجنرال الفرنسي كليمنصو يقول عن الحرب «إنها لعبة معقّدة، ولا يجب أن تُترك للجنرالات وحدهم»، عليه نقول إن ورشة إعادة بناء وسط بيروت، كانت يجب أن تكون ورشة «ترميم» لا ورشة «إعادة إعمار»، وما كان يجب أن تترك للمهندسين والسياسيين وحدهم، بل لهيئة فنية خاصة بعيدة عن السياسة وأهدافها ومغانمها، تنشئها الدولة، ويشارك فيها مهندسون ومؤرخون وأدباء وفنانون ومثقفون وشعراء، ينظرون في كل صغيرة وكبيرة، للحفاظ على روح المدينة القديمة وتراثها، وقيم أهلها وثقافتهم، وإذا اتفق وقضت ضرورات الترميم إضافة ما هو جديد، نقيم فيها الحدائق المفروشة بالزهور والنباتات المتنوعة، ونوافير الماء وتماثيل الخالدين من اللبنانيين، وركناً خاصاً للعازفين على الأوتار، وآخر لفناني الأرصفة، يعرضون عليها فنونهم، مظاهر تطبع المدينة بطابع خاص، وتميزها عن غيرها من المدن. من يزور مدينة مثل برلين، يتحسّس ماضيها، ويشعر فيها برائحة الحرب، ثمّ، أليست الحروب وآثارها ورموزها جزءاً من تاريخ المدن وتراثها؟! لهذا السبب، وربما لهذا السبب وحده، كان يتعين علينا الحفاظ على وسط بيروت وما فيه من صور الحرب وآثارها، ليكون معلماً لا مثيل له، وأكبر «متحف مفتوح لما بعد الحرب» في العالم. كان علينا أن نبقيه على قِدمه، ونترك أمر ترميمه لأصحاب الأملاك والتجار والقطاع الخاص، يرمّمونها بأنفسهم، ضمن قواعد وأصول، تضعها الهيئة الرسمية المذكورة، ليكون الوسط التجاري، كما منطقة «مار مخايل» التي لا يزال في هوائها وعمرانها أشياء محسوسة وغير محسوسة من تراث بيروت القديمة.


ما يستهوي السياح والزائرين في مدينة مثل لشبونة على سبيل المثال، ليس أبنيتها الحديثة وفنادقها الفخمة، بل أحياؤها القديمة، حيث الحانات القديمة تمتد على دروب ضيقة، تتمايل وتتعانق، تفوح منها نكهة الأسماك الشهية، ورائحة المعتّق الأحمر، وتنساب من مداخلها ألحان «الفادو» وأصوات مطربات أسطوريات مثل ماريتسيا وآماليا رودريغز، كأنها تسترجع أصداء أصوات قديمة، مقطّعة مبحوحة ومكسورة، أرسلتها عبر الأثير، حناجر زوجات وصبايا وعاشقات، إلى أزواج ومحبين وعشاق، ركبوا متون السفن المبحرة إلى العالم الجديد في البرازيل. وكما الحال في بعض أحياء هذه المدينة، كذلك هي في أحياء مماثلة، مثل حي «غرينتش» في نيويورك، ومنطقة «كمدن تاون» في لندن، وحي «مونمارتر» في باريس، وأماكن كثيرة، فريدة من نوعها في مدن أوروبا والعالم.
حين جالست المهندس البيروتي هشام جارودي، آثرت ونحن نستذكر عهوداً مضت، وخيالات بيروت القديمة، أن يكون حواري معه بعيداً من الرياضة، وعن النادي الرياضي الذي شهره واشتهر به، وأن يكون وقفاً على هذه المدينة التي وُلد فيها هشام جارودي، ونشأ وترعرع، وعاش فيها أجمل سنوات عمره كما يقول. بيروت التي أحبها أهلها وأحبها الأجانب، وأحبها العرب، كما لم يحبوا أي مدينة أخرى في العالم. وهشام جارودي لمن لا يعرفه، من البيارتة الأصلاء. ولد في بيروت عام 1942، ودرس الهندسة في جامعتها الأميركية، وهو بحكم ثقافته ودراسته، يعرف مدى الظلم الذي حلّ ببيروت. أسأل هشام جارودي الذي أنجز في بيروت الكثير من المشاريع، ما إذا أعطى المدينة حقها من الوفاء، فيجيب: «لم أوف بيروت حقها أبداً، وحياتي كلها كانت ولا تزال لبيروت أم الشرائع. كانت هناك سنوات عصيبة اضطررت فيها، بعد تخرجي في الجامعة، للرحيل عن مدينتي الغالية، وكانت البداية في قطر عام 1968، وسكانها آنذاك، لا يزيد عددهم عن عشرين ألف نسمة، وفي أثناء الحرب الأهلية المشؤومة اضطررنا، أنا وعائلتي، للسكن في لندن، لكن بيروت بقيت دائماً في عقولنا وقلوبنا».
يتذكر هشام جارودي منطقة الوسط التجاري؛ أسواقها، تجارها وتجاراتها، أزقتها، دروبها وجاداتها والشوارع: يتحدث بحسرة عن شارع فوش، الذي كان يجمع لبنان كله على حد قوله، وحيث كان متجر والده وتجارة أجداده. شارع «أللنبي». ساحة البرج، «التياترو الكبير»، باب إدريس و«ستاركو»، سوق الفرنج، سوق الذهب وسوق سرسق وسوق أيا وسوق أبو النصر. يعترف بأغلاط هندسية ومعمارية حصلت ويقول إن المشروع لم يلحظ ما كانت أسواق وسط بيروت تختزنه من خدمات ومشاعر إنسانية. عمارات أثرية هُدمت، وكان يجب المحافظة عليها. يشير على سبيل المثال، إلى مبنى «دائرة البوليس» الذي كان في ساحة البرج، بمحاذاة «صيدلية الجميل»، ويقول: «حاولت بكل طريقة إقناعهم بالحفاظ عليه، لكنهم هدموه»! يلقي المسؤولية على عاتق بعض المسؤولين في «سوليدير» منهم هنري إده، ناصر الشماع ومهيب عيتاني. في حوار على الشاشة مع حسن الرفاعي، أجرته الراحلة جيزيل خوري قال هذا القانوني القدير إن «سوليدير»، حولت وسط بيروت إلى ما يشبه المقبرة الرومانية. يرى جارودي في هذا الوصف شيئاً من الصحة ويقول: «أتجول اليوم في الوسط التجاري وأراه ناشفاً لا روح فيه»، ويضيف: «في البدء كان هدف القيّمين على الشركة هدم كل ما هو قديم، والشروع في بناء وسط جديد. اعترضت على الفكرة، كما اعترض عليها أستاذي المهندس عاصم سلام، وقلنا لهم هذا لا يجوز، ولا يجب أن يسري على مدينة مثل بيروت، لأن للمباني روحاً وتقاليد. قتلوا هذه التقاليد، وعمر الداعوق مات متحسّراً، وهو غير راضٍ عمّا حصل. كان تصورنا للمشروع مختلفاً، في حين كان هدفهم خدمة الغريب، وبناء وسط جديد للخليجيين، ولشريحة من اللبنانيين من محبي الأصناف العالمية والساعات، والجزادين والفساتين الفائقة الثمن! كنت من الذين يريدون تنظيف المكان من الأوساخ وتحريره من الحشاشين والمتسوّلين، وترميمه على نحو يحفظ روح بيروت وحضارتها التي كانت لها أيام زمان، أما هم فلم يفكروا إلا بجني المال. استملكوا البحر، ومنطقة السان جورج، وبنوا أمكنة جديدة، وقاموا بأشياء لا يعرفها إلا القليلون، ومنها إنشاء فروع لشركة «سوليدير» في الخليج، وحتى في عجمان، بهدف تحصيل الثروة السهلة المنال، على حساب بيروت وتاريخها وتراثها».
كان هشام جارودي من أقرب المقربين إلى رفيق الحريري، وبلغت ثقة رئيس الوزراء الراحل به حداً حملته على أن يطلب إليه أن يشتري له عقارات في بيروت ومناطق مختلفة من لبنان، بمئات الملايين من الدولارات، سجلها الحريري باسم شركاته، وبعضها باسم هشام جارودي نفسه، وأوصاه أن يدفع رسوم تسجيلها بالكامل. وبخلاف الآخرين من المسؤولين، بدا هشام جارودي صادقاً مع نفسه، عند الحديث عن مشروع إعمار الوسط التجاري. اعترف بأنه كان من الذين ارتكبوا الأخطاء في وضع الخطوط العريضة لهذا المشروع، لكنه يضع اللوم الأكبر على مجموعة من المهندسين، أوكلت إليهم مهام تخطيط الورشة وتنفيذها، وكان عددهم 12 مهندساً. لكن المشروع لاقى، وفقاً لكلام جارودي نفسه، اعتراضاً شديداً من غالبية الوزراء وبعض رؤساء الحكومات وبعض كبار المهندسين، وكان رأيهم أنّ الحريري القادم من السعودية، جاء لينفرد بلبنان ويحكم بيروت بماله!
«سوليدير» حولت الوسط التجاري إلى ما يشبه المقبرة الرومانية

يقول جارودي في كتابه «من القلب» إن رفيق الحريري سعى إلى بناء الوسط التجاري بأي طريقة «بهدف إحياء العاصمة التي تهدمت وأصبحت مأوى للدعارة والمخدرات والكلاب والجرذان». لكن هذه «الطريقة» لم ترق لكثيرين من التجار والسياسيين وأهل الفكر والثقافة، ولم ترق أيضاً لبعض المهندسين، وعلى رأسهم عاصم سلام، الذي خاض، باعتراف جارودي، معركة قاسية مع المهندس المعماري هنري إده، الذي كان على رأس من تولوا مهام التخطيط «حول أثر المشروع على روحية العيش المدني». ويقول: «معركة عاصم سلام كانت ضد الكسّارات واستباحة الأملاك البحرية وضد مجزرة التراث، وكان يشدّد على أهمية الذاكرة الجماعية، وسعى إلى وضع قانون لحماية التراث، لكن القانون نام في أدراج مجلس النواب»! يقول أيضاً «إن رفيق الحريري كان يعشق البناء، وحلم ببناء التجمعات السياحية الفخمة، لتكون بيروت أجمل عروس بين عواصم العالم». رؤساء الوزارة اللبنانية كلهم، لكن الرئيس رقم واحد وشيخ الرؤساء في نظره هو صائب سلام.
لم يكن رفيق الحريري ساعة بدأ اهتمامه بإعادة إعمار وسط بيروت يشغل أي منصب سياسي، ولم يكن بمقدوره القيام بما قام به، إلا حين وصل إلى رئاسة الحكومة. يومها سرت شائعات كثيرة مفادها أنه أعطى تعويضات زهيدة لأصحاب الأملاك، ويقول جارودي عن نسبة الأسهم التي امتلكها رفيق الحريري في «سوليدير» إنها عشرة في المئة، أما ارتفاع الأسعار في ما بعد، فسببه ما قامت به «سوليدير» من تنظيف وتخطيط وبناء وتطوير، في وقت ارتفعت فيه أسعار العقارات في جميع أنحاء العالم. أساله، هل كان هناك من ظُلم؟ يجيب: «فئة من أصحاب الأملاك ظُلموا، لأنهم تركوا عقاراتهم ولم يرمّموها، وباعوها بألف دولار للمتر الواحد». لكنه يوافق على أنّ «الكثيرين من أصحاب الأملاك، هُجّروا إلى تخوم العاصمة، وباعوا عقاراتهم، لأنه لم يكن لديهم ما يكفي من المال لترميمها، في حين كان يجب إنشاء مصرف عقاري خاص، يسعفهم ويقرضهم الأموال المضمونة بما يملكون من عقارات، وهذا لم يحصل».

قتلوا التقاليد وعمر الداعوق مات متحسّراً، وهو غير راضٍ عمّا حصل


يقول جارودي إنّ الحريري، كان مسالماً ومنفتحاً على الجميع ما في ذلك شك. لم تتطلخ يداه يوماً بدماء الناس. كان حلمه أن تكون بيروت، درة العواصم العربية، ونفذ أعمالاً فاقت تصورات كبار المهندسين والمعماريين. حظه العاثر، أنه راهن على السلم والسلم لم يأتِ. فاته أن السلم لا يمكن أن يتحقق، في منطقة منذورة لصراع «الأنبياء والرسل».
لكن الحريري جمع حوله مجموعة من الوصوليين والمتزلّفين، ما كانوا يلتفتون إليه لو لم يكن ثرياً وسخياً، وأعطى لكل واحد منهم سعره الخاص به، ولم يكونوا على قدر ما ائتمنهم عليه وما أولاهم من ثقة. لم يكن ماله من تعبه، فأنفقه من غير حساب، وأغدق الملايين منه على كبار السياسيين، ليشتري منهم الموافقة على مشاريعه، من وحي اعتقاده، بأن الشغل في لبنان «ما بيمشي إلا هيك». في الخليج، شيّد الرجل المباني والمنازل والجسور والقصور، وحين جاء إلى لبنان ليبني، جاء بالرفش ذاته والمعول ذاته. نسي أن بيروت ليست صحراء، وأنها كانت ثريا الشرق الأوسط، وفيها ثقافات وذاكرات وحضارات، عمرها من عمر الأرض، كما فاته أنّ لا معنى أن تدهن بيتاً بأجمل الألوان، وترصف أرضه بأجمل البلاط، وتفرش غرفه بأحدث الأثاث وأجمله، إذا كان أساسه مصدّعاً، وأن أي بلد «لا يمشي الشغل فيه إلا هيك»، هو بيت أساسه مصدّع، وآيل للسقوط، ولو طوبوه بألف رُقية وألف تعويذة وألف خرزة زرقاء، لذلك كان قدر الرجل بأحكام التاريخ ومُكره محتوماً، على يد قتلة لا يهمهم لبنان، ولا يعنيهم رخاؤه ولا أمنه ولا ازدهاره، بقدر ما تعنيهم أجنداتهم السياسية، التي لا يزال لبنان يدفع بسببها أفدح الأثمان!