أعتقدُ أنّ الرّواية هي صوت كلّ مَن لا يمكن أنْ نسمعَ له صوتاً في الواقع، أولئكَ الّذين يعيشون ويموتون، ويواجهون الحياة بكلّ ما تحمله مِن مآس، من دون أنْ نعرف عنهم شيئاً، خاصّة إذا ما تعلّق الأمرُ بأبناء الهامش، والهامش هُنا تعدّدتْ أوجُهه بتعدّد المشاكل التي يعيشها مجتمعٌ بعينه دون غيره. وخاصّة إذا تعلّق الأمر بالصّحراء، التّي لا نعرفُ عن أهلها سوى الأمور الإيجابية كالعلم والكرم والشجاعة.. لكن بفضل التطوّر التكنولوجي الذي غيّر الكثير مِن المفاهيم، إذْ سعى إلى عقدِ مصالحةٍ أدبيّة مع أبناء الشعب الواحد مِن الجنوب للشمال، ومِن الشرق للغرب، بِتْنا نعرفُ هُموم بعضنا بواسطة النصوص السردية القادمة مِن كلّ منطقة، ولعلّ نصوص الصّحراء تحديداً تمتازُ دائماً بأصالتها وانطلاقها مِن المكان الذي يُعدّ المركز الأساس في بنائها.
مع رواية «المكناسيّة» الصّادرة عن «دار ميم» (2021) للروائي الجزائري عبد الغني صدوق، نكتشفُ الوجه الآخر لمنطقة مكناس (بلدة بولاية أدرار الجزائرية) التي تكادُ ــ بحسبِ ما جاءتْ به الرّواية ـــ تنخرها النّعرة القَبَلية التي أثّرتْ سلباً على أوجه الحياة فيها على كافة المستويات الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية وحتّى الثقافية، إذْ أنّ كلّ شيء فيها يخضعُ للتمييز العنصري كأنّه أصبح رديفاً للحياة هناك. فالرواية تقول بأنّ الإنسان عدو لما يجهل وأنّ الأشياء التي نحسبُ أنّها ما عادتْ موجودة في القرن الحادي والعشرين، هُنا في هذه الأرض ما زال بعضهم يُناضل لأجل أنْ يُعترف به كإنسانٍ له الحقّ في نيل ما يُريد بحسبِ استحقاقه وكفاءته وليس لأجلِ لون بشرته أو عِرقه.
تنطلقُ الرّواية من الخّاص لتتناول العام، في إطلالة على مكناس مِن الداخل والخارج. يسردُ الكاتب تفاصيل حياة إلياس الفقير، الذي نشأ في بيتٍ لا يتضمّن أدنى شُروط الحياة، إلياس الذي طُرد من الابتدائية لأنه «لم يكن كبقيّة أقرانه مُهتماً بما يدور بالقرب مِن محيط المدرسة، ولم يهدر وقتاً في التطلَّع إلى القوائم المعلَّقة؛ لأنه كان يُدرك أنَّ الرُسوب حليفه». إذْ لجأ بعدما طُرد من المدرسة إلى ممارسة أنواع المحرّمات، لكن الكاتب لم يقدّم صورةً ضبابيّة بالكامل عن إلياس، بل منَحَ صورته بريقاً ساطعاً. يضطرُّ الياس لإعالة أمّه وأخته مِن زوج أمه، الذي يُقال إنّه مِن الشرفاء، وهكذا يفعلُ كلّ ما بوسعه في سبيلِ إعالة أُسرته، حتّى تفتح له الحياة أبوابها، فيصبح مِن أكبر مقاولي البلد.
هُنا يقدّم الكاتب صورةً متوازنة عن الإنسان الذي يحملُ خيره وشرّه معه. وحدَه المُجتمع وظروف الحياة المتعاقبة ما يحرّك رياح أقداره حيثُ شاءت، إذْ يُبرز أنّ الإنسان مهما كان سيئاً تجاه نفسه، إلّا أنّه سيكون أكثر رحمةً على عائلته، التي لربّما يتغيّر للأفضل من أجل سلامتها، فقيمةُ الأسرة أهّم مِن أيّ رابطٍ آخر.
من خلال اختلاف مسار إلياس وأبناء عُمومته، يظهر أنّ النجاح الحقيقي هو التفوّق على الفشل بخلقِ طُرُقٍ جديدة ومختلفة، فكلّ واحدٍ منّا لهُ بصمته في مجاله، المُهم أنْ يتغلّب على الفشل، بدل البُكاء على الأطلال والتحسّر على ما مضَى.
يذهبُ عبد الغني صدوق بالقارئ إلى مسارٍ آخر، ومكانٍ بعيد عن مكناس، إنّه وهران، حيثُ اشترى إلياس شَقّةً لأهله. مِن خلال عودة زهيرة، والدة إلياس، بعد قرابة ثلاثة عقود مِن الطلاق إلى مولاي، تبرز التجاذبات التي تعيشها الأسرة وتنجمُ عنها أحياناً علاقات أو قرارات خاطئة، لا ندركُ عواقبها إلا بعد حين، إذْ يقول في الرواية: «سافرتْ زهيرة بذاكرتها إلى سالفِ عهدها به، يوم كان شحيحاً. استغربتْ مِن الجُود الدائب به على ابنته كلّما سنحتْ لهُ فرصةَ مَن يوصله إليها، لا أحد يعلمُ لماذا تحوّل من مُمسكٍ إلى معطٍ، ولعلّه أراد أنْ ينفي عن شخصه صِفة الشُّح الملاحقة له حتّى بعد فراقها، إذْ روّجت الناس أنّها كانتْ سبباً فاعلاً في نهاية الزواج».
أخرجَ عبد الغني صدوق «مكناس» الادارية إلى القارئ الجزائري الذي لم يكن قدْ سمِع بها من قبل، وللقارئ العربي للقول أيضاً أنّ العنصرية في بعض الأماكن باقية وتتمدّد، خاصّةً إذا ما لبَستْ عباءة الدّين. كما فكّك بعض المظاهر الاجتماعية التي تعيشها المجتمعات الصحراوية بمعزلٍ عن العالم، يقولُ المثل الأفريقي: «الطفلُ الّذي لم تحتضنه قريته، سيحرقها ليشعُر بدفئها». الأمرُ ذاته بالنسبة لأيّ ظاهرة اجتماعية يتعاملُ معها بمنطق النَعرات القَبَلية والتمييز بين الأبيض والأسود لا منطق العقل المتوازن.
المكناسيّة تحاولُ كنس التُراب المُعشّش في الأذهان المتشبّثة بالخُرافة وتفتحُ الأفُق لإعادة النظر في ترتيب الحياة الادارية _ المستحيلة_ على جميع الأصعدة، إذْ أنّها جاءتْ بلُغةِ أهلِ الصّحراء الضاربة في الأصالة؛ لتقول بأنّ الحياةَ ليستْ مبنيّة على لونٍ واحد، الحياةُ بكلّ الألوان، نختارُ اللون الذي نريد من دون أنْ نشوّه الألوان الأخرى، فلولا الألوان لما كانتِ الحياة جميلة رغم كلّ شيء.
يقولُ أحمد المطرفي: «ليسَ من مهام الأدب نقل معلومات تاريخيّة عن حِقبة ما، بل أنْ ينقلني كآلة الزّمن لأعيشَ بكلّ جوارحي في تلك الحِقبة». لا شكّ في أنّ هذا ما ستُحدثه المكناسيّة في مخيّلة قارئها، الفرقُ الوحيد؛ أنّه لن يُسافر عبر الزّمن إلى زمنٍ آخر، بلِ الزّمن المُتحدّث عنه حاضرٌ وموجود.