بانطفاء السينمائي اللبناني برهان علويّة (1941 ــ 2021)، تُطوى الصفحة الأخيرة من حكاية جيل المغامرين والحالمين الذين أسّسوا «السينما اللبنانية الحديثة» في سبعينيات القرن الماضي، عشية الحرب الأهليّة، مستفيدين من الفورة الخصبة التي سبقت الانفجار الكبير، ومن زخم السبعينيات في بيروت، يوم كانت مختبر الحداثة والنهضة والفكر التقدمي الساعي للتغيير والعدالة الاجتماعية، والانخراط القومي تحت راية فلسطين... باختصار، العصر الذهبي للثقافة اللبنانية!برهان هو آخر الراحلين، بعد مارون بغدادي (1950ــ 1993)، ورندا الشهال (1953 ــ 2008)، وجان شمعون (1944 ــ 2017) وجوسلين صعب (1948 ــ 2019) الخ. اليوم ننتبه إلى أن هذا الجيل أخذ معه أحلامه ومضى، طريقة معينة في صنع السينما... أحلام ومعارك وخيارات، جعلت كلاً منهم لصيقاً بالمعنى الجسدي والفكري بكل إرهاصات هذا المجتمع، وبقضايا عصره... ننظر إلى هذا المنجَز اليوم من قعر الهوّة التي تغيّرت فيها ملامح العمل الثقافي وشبكات توزيعه، وتغيرت المراجع والأدوات والأهداف وآليات التمويل وثقافة المشاهدة. كل ذلك يجعل من برهان ورفاقه آخر الشهود على مدينة كانت... وعصر تصدّع وتهاوى من دون أن يترك أثراً. طبعاً ترك الجيل المؤسس ورثة استثنائيين، وواصل ما اصطلح على تسميته «السينما اللبنانية» ازدهاره وخصوبته وتنوّعه، لكن شيئاً ما، تصعب تسميته، فُقد إلى الأبد.
لقد فهم صاحب «بيروت اللقاء» ذلك منذ عقدين، فلاذ بالصمت ـــ بعد معاناة إنجاز فيلمه الأخير «خلص» (2006) ـــ وراح يراقب ابتعاد مدينته وزمنه بصمت من منفاه البلجيكي... قال «خلص» وانسحب... وتفرّغ لصراع طويل مع المرض الذي لا يمكن إلا أن نرى فيه مجازاً عن اليأس والهزيمة، وفشل المشروع النهضوي الذي حمله برهان ورفاقه... ولعلّ الراحل أبلغ من عبّر عنه من خلال أفلام وثائقيّة وروائيّة تحكي عن الحرب والمنفى والغياب وانهزام الأحلام. تحيّة ـــ لن تكون الأخيرة ـــ إلى الرجل الأنيق، صاحب القامة الفارهة، والشاربين المميزين، والنظرة الحزينة إلى العالم. لقد تحققت نبوءته، وحلت النهاية، وصار بإمكانه أن يمضي بأمان.