لقد أحببتك يا أليس كما تحبّ الخيل المحبوسة ميدانَ سباق مفتوحاً.
أحياناً أتذكر بلوزتك الخمرية وأبكي. أعرف أن هذا مضحك. لكن إن لم يتحول الحب إلى ذكرى فلن يكون حباً. الحب ذكرى فقط. اليمامات أيضاً ذكريات وليست طيوراً. تهب من الماضي بأجنحة ملتهبة، وتحرق وجوهنا.

أعرف أنك ما أحببتني يا أليس. لكن هذا لم يكن أمراً فظيعاً. فالمهم أن تحب أنت. أن تضع يدك على موضع الألم، وأن تكسر بعينك شعاع نجمة الزهرة.
أتذكرك يا أليس. أدخل يدي في شق الأبد وأتذكرك. أمسك عود الرحى ثم أطحن وأتذكرك.
غير أن الأمور معقّدة جداً، فالحب ذاته لا يعرف ذاته.
عبرت أمس حافياً حقل الشوفان البرّي عند الفجر، فأغرق الندى قدمي. وكان هذا كافياً كي أمحوك وأمحو ذكراك.
القدم تمحو الألم.
القدم حفلة عدم كبيرة يا أليس. لذا أمشي كي أمسح اللوح كله من الطفولة للكهولة بقدمي.
الحب حظيرة مقفلة يا أليس. أما الخيل فحنينها للميادين المفتوحة.
25-4-2018
■ ■ ■

السلام عليك يا لميس، يا شجرة طلحٍ رمت يوماً أغصانها وظلّلتني. السلام على النحاس في شعرك، وعلى النعاس في عينيك.
مررت أمس ببيتك. لكنني لم أنقر الباب بظهر إصبعي. مضى زمن النقر بالأصابع. مضى زمن البدايات والمطالع. قُطع الخيط وضاعت الطيّارة الورقية في السموات. دارت الزوبعة وكسرت قرنيها على الصخرة.
لكنّ هذا لم يكن خطأَك. كان خطئي أنا. بل خطأ القوافل التي جعلت طريق الحرير تمرّ أمام بيتي وتأخذني.

زليخة بوعبدالله ـــ «حب على حب 3» (صورة فوتوغرافية ورسم ــ 22 × 17 سنتم ــ 2012)

رضاي كبير عنك، رغم أن كلماتي تقصّر عن مديحك. فالكلمات بعير لا يوصل راكبه. والشعر قفل يغلق بالحديد قلب صاحبه.
أريحا مدينة حزينة يا لميس. ليس فيها حتى شجرة جوز واحدة. ليس فيها خزانة صغيرة أضع فيها مخطوطاتي. مدّ ينبوتها أغصانه مثل أذرع أخطبوط وقتل النخلة. مدّت ريحها كفّها وأسقطت شملتي عن رأسي.
غير أنني أحلف يا لميس أنني سأقيم لك تحت قرنطلها معبداً، وأنني سوف أنحت بإزميل اليأس ومطرقته تمثالاً كبيراً لك، وأصلي له.
22-7-2019
■ ■ ■

أحببت هنيدة.
أحببت اسمها الذي يساوي مائة جمل أسود في الصحراء.
هنيدة التي وضعت يديها مرة تاجاً على رأسي، ثم اختفت. عيناها فقط ظلّتا لقلقين أبيضين يحومان في ذاكرتي.
كل ميراثي كتبته باسم هنيدة. كل قصائدي كتبتها من أجلها.
كيف لي أن ألمّ الجِمال السود المائة التي تبدّدت في الصحارى؟ كيف لي أن أستعيد التاج الذي كان مرة فوق رأسي؟
ستقول هنيدة: انظر، أنا هنا تحت شجرة الميموزا.
لكن لا أحد تحت الميموزا، لا أحد.
قطيع من مائة جمل مبدّد في الصحراء، هنيدة. نهر كبير غيّر مجراه القديم فجأة، وأخفى مجراه الجديد عني.
أعدُّ جمال هنيدة على أصابعي. مائة جمل أشقر في الصحراء أصابعي.
2-6-2019
■ ■ ■

بعد أن تعبتْ نسرين مني، حبستني في قفص وسافرت.
وفي القفص أكلت الكلمات. أكلت الصور المعلّقة على الجدار، كما أكلت النور على صفحة المرآة. ونجوت.
وحين عادت نسرين، أطلقتني ونسيتني.
فعلامَ أراهن إذن؟
أريد لأحد ما غير نسرين أن يبني لي بيتاً كبيراً. وأريد علفاً آخر غير الكلمات. بل أريد حتى شيئاً غير النجاة ذاتها. فقد نجوت أكثر ما ينبغي، وأتعبتني نجاتي.
غير أن نسرين تذكّرتني من جديد، ووضعتني مثل مصباح في مشكاة، ودارت بي في طرقات الليل. وأنا كنت ملزماً أن أنير لها طريقها. أن أغني لها كأنني نجمة، أو جارية.
آه،
من أنت يا نسرين؟
أأنت قفص أم مشكاة؟
نخلة أم أرطاة؟
ومن أنا يا نسرين؟
لعلّني أبوك الذي أسقطك مثل دمعة من عينه
لعلّني سهم نور على صفحة المرآة.
16-2-2019
■ ■ ■

حطّ الليل على جبيني.
تساقطت النجوم، وتسافدت مثل القطط على التراب. أحلف كل صباح أن أحذف الليل والنهار من قائمة أصدقائي، لكنني لا أبرّ يميني. أحلف أن أمحو اسم نسرين، وأن أضرب بالحجر جبينها، لكنني أحنث بيميني.
لديّ أصابع من طين، ولديّ مقاطع حنين.
لكن حروف العطف لا تسعفني كي أعطف يدي على كتف الحبيب. لا تنفعني كي أفلت نفسي من عروة قميصه.
سأحيلك إلى رماد يا قبيلة المحبة. سأحيلك إلى زانية أيتها الوردة.
حطّ النهار على جبيني.
حطّت الثآليل على ظهر كفي.
ويحه من قسم الأمور هكذا. من جعل نسرين قبيلة وحدها. ومن جعل الليل يقضم جبيني ويفلت جبينها.
16-9-2018
■ ■ ■

النهار يسقط من جديلتك يا نسرين. والليل من كفك ذات الأشعة الخمسة.
لكن الخريف حلّ قبل مجيئك يا نسرين. رياحة جرّحت كالشفرة خدّي، ونيرانه وسَمَت جبهتي. وأنا هنا أبحث عنك. أدير عيني مثل عين ضفدع في كل اتجاه كي ألمّ صورتك، كي ألم بحّة صوتك.
ليتك كنت عندي كي يكون كلامك نبوءتي، وصمتك مخدّتي.
أنت زهرة كبيرة. لكن نسبك أبعد حتى من الزهرة. نسبك يخرج من الصخرة، ويسيل في داخلي.
تحت جبل القرنطل قعدت أمس أنا والنخلة نفكر فيك. قعدنا نلوك كالتمرة اسمك. لقد ولدتِ أنت قبلي وقبل النخلة يا نسرين. تدلّت عراجينك قبل عرجوني وعراجينها.
ضلال بعيد أن أفهم ما أريد أنا منك. وضلال أبعد منه أن يُفهم كلامي فيك.
29-8-2016
■ ■ ■

يا أصدقائي، يا حجارة مكسورة، يا شظايا الزجاج، سوف آتيكم في الليل، وريح الشمال تضرب بطبلتها، وترمي النجوم لكلابها. أنا آتي عادة هكذا، مكفهراً ومسحوباً من لحيتي آتي. ولا أجيء لغرض. آتي فقط كي آتي. إن كانت هناك كأس سأشربها، وإن كانت هناك كسرة خبز سآكلها. وإن لم يكن فسأجلس فقط قرب النار وأغني لسيلين التي رحلت، ولم تعد. سآكل ذكرياتها أمامكم عند النار. سآكل بلوزتها الفستقية، وشعرها القصير.
وهذه عادتي. أغني الراحلين أبداً. أغني سيوفهم التي جرّحتني. أقعد عند النار وريح الشمال تضرّي كلابها، وأغني. أعرف أن الغناء لن يعيد لي سيلين. أعرف أنها لن تدخل عليّ فجأة، ثم ترمي شالها على كتفي. لكنني أغني.
آه يا أصدقائي، يا حجارة مغروزة في الأرض. سوف أقلعكم بالفأس، وأجعلكم حجارة لموقدي. أنا لا آتي لكي أكسر العرق بالماء، أو لكي أكسر رغيفاً، بل آتي لكي أكسر الليل بالليل، لكي أضرب ريح الشمال بالمنجل على خصرها.
رحلت سيلين. رمت الخاتم على البلاط، وصفقت الباب خارجة. وأنا آكل كل مساء خصلة من شعرها، وقطعة صغيرة من قميصها.
31-7-2020
■ ■ ■

تعالي معي يا سيرين إلى المنزل المهجور. سننام هناك على العتبة. سيصلّب كل منا يديه على صدره وينام. ومن السهل أن لا ينهض الواحد أبداً من مثل هذه النومة. لكننا سننهض. فهناك طفل في أحشائك ويجب النهوض من أجله. سيكون عليّ أن أطعمك خمس وردات من شجرة الجوري. يجب أن نغذي الطفل، وأن نمنع الموت من دخول الحديقة المهجورة.
سنقعد في الظهيرة تحت شجرة المصطكى. وهناك سنأكل صمتنا. أنا أنكث التراب بعود في يدي، وأنت تدوّرين محبسك في إصبعك. دوّري يا سيرين محبسك. دوّريه لكي يدور الليل والنهار تحت شجرة المصطكى.
واليأس يا سيرين مأزقي. عبر مثل وباء الكورونا، وفتك بي. خمس قُطَب في جبيني من سيفه. آه يا سيرين من محبسك الفضة. لقد حبس لساني. لو كنت قادراً على الموت لمتّ عند غروب الشمس حين تبدأ شجرة المجنونة أغنيتها. ولو كنت قادراً على الحياة لرقصت مثل ديك حولك، ولقطت حبات القمح بمنقاري ورميتها بين قدميك.
اذهبي أنت يا سيرين. أما أنا فسأنام على العتبة. وفي الصباح سألوك الورد من أجلك.
ليس هناك أمل يا سيرين. لقد قلّبت الأمر على وجوهه كلها. ليس هناك أمل.
وإن سألتني: وماذا عن الحب؟ فسأجيبك: الحب يا سيرين؟ لقد رقدت على بيضه ست سنوات، فلم تفقس منه حتى بيضة واحدة. انسي الحب يا سيرين. ارميه وراءك. ودوّري محبسك كي ينتهي الصيف، وتسقط حبات المطر على وجهك.
في المنزل المهجور يا سيرين أفكر فيك. آكل وردة الجوري وأفكر فيك. خمس قطب لليأس في جبيني، وسبع قطب على صدري. وهناك ما هو أصعب من ذلك: نجمة الشعرى تطلع باكية، فيفيض البكاء مثل نيل عظيم حولي.
26-6-2020
■ ■ ■

أعرف أنني عميتُ عنكِ عشرين عاماً يا عائشة. ولم يكن هذا مقصدي. جرّني عماي مثل سيل أتاني عن يميني وعن شمالي. خبزتي أعمتني، وخمرتي أعمتني. فويل لي على فعلتي. ويل لأمي التي ولدتني.
ردّت عائشة كي تجرحني: العمى وسيلة. العمى حصيلة.
أعلم أن العمى وسيلة يا عائشة، وأنني زرعتها بيدي. وأعلم أنك كنت قبيلتي الكبيرة وأنني أنا الذي شتّتُ مضاربها وضيّعتها.
لكن ها قد فتحت عينيَّ، وسوف آتيك عائداً يا عائشة. سآتيك حتى لو أنك أغلقت في وجهي بابك. حتى لو أن عينك من وراء النافذة أحرقتني مثل عدسة لامّة.
حل الصيف مثل صقر من نار فوق الغور. أحرق بريشه قمم الأشجار. أحرق قمة جبل الأربعين. وأنا قاعد وحدي تحت ظلة من سعف اليأس.
أنا نبي ضيّع أهله يا عائشة.
25-5-2020
■ ■ ■

اطبعْ كفّك مثل ورقة تين على صدري. احفر اسمك كحاجب يعلو عيني.
الحب بسيط هكذا. والشعر أبسط من هذا أيضاً
وقد رغبت في أن أكون عصيّاً عليك. في أن أهرب منك مثل وعل إلى قنّة الجبل. لكن ها أنا أسلمك ذراعي كي تحفري عليها ما تشائين بإبرتك. ها أنا أسلمك جسدي كي تطئيه مثل هبة ريح. أنا أسير الإبرة والإزميل. أسير الكلمات التي تأخذني إليك.
طيور أبي الحنّاء وحدها ستحكم بيني وبينك.
لكنك تعرفين أنني كبير مثل الصمت، وأنني صغير مثل الموت.
وكل هذا محض تشابيه. فأنا أحنّي الطيور كي تحنّي يديك. وأصوغ الموت كي يتدلّى لي مثل قرط نحاس من أذنيك.
23-5-2017
■ ■ ■

أتذكرين يا فاطمة حين دفنت رجليّ في الطين كي أصير شجرة؟ أتذكرين؟ لكن الطين لم يقبلني، وكنت أنت تضحكين مني.
الطين موظف قاس تقدّمت له بأوراقي كي يختمها، فدقّق في وجهي، وفي أنفي، وفي الثآليل التي طلعت كالبراعم على خدي. لكنه لم يختم لي أوراقي. كانت أوراقي ناقصة دوماً. كان جواز سفري في المطارات تحت أقدام العابرين. لكنني كنت على يقين بأنني شجرة. وكان هذا يعزيني.
اسمعي يا فاطمة، تستطيعين أن تضحكي عليّ أنا الشجرة التي تضرب على الكيبورد. لكن هناك غيرك من يعرف أن ثمة شجرة كبيرة في قلبي. وهؤلاء هم من أنتقي منهم أحبتي. هؤلاء فقط هم من أكتب لهم في الصباح مقطوعاتي.
أنا جارك الأشيب الذي لم يعبر تحت قوس نصر أبداً يا فاطمة.
17-1-2021

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا