يُفترض بمن يؤمنون بجمال البدايات ويخشون من النهايات أن يعيدوا النظر، فلا شك أن الحنين يغلّف تلك الأيام، حين كانت مجموعة من الصبية تغنّي بشغف: «رفرف يا سام وعلّي يا حامينا، فهّم أمريكا ويل بيعادينا» في إشارة إلى صواريخ سام السوفياتية، قبل أن تعلو الحماسة بصوت أحدهم: «صواريخنا الحمرا منزرعها بأراضينا، بسوريا ولبنان ومطرح ما بيرضينا، ما مدام وجودا رح يحمي أراضينا».الحنين حاصر صوت الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في وداع الشهيد حسان اللقيس حين قال إنه «كان أخاً وحبيباً وأنيساً وقريباً وصديقاً منذ أن كنا شباباً صغاراً في مدينة بعلبك». لكنّ البدايات الجميلة بصعوباتها لا تحتكر الجمال، فكأن كل يوم أجمل من سابقه، أياً كانت الصعوبات، منذ قدّم الشيخ راغب حرب لهم نموذج العودة على عجل إلى بلدته المحتلة ليقارع التطبيع وجهاً لوجه عبر مقولته الشهيرة: «الموقف سلاح والمصافحة اعتراف»، وليكشف لهم بعد حين أن اغتياله لن يزيدهم إلا قوة. جيل وازن بين الإيمان والعلم، عمله الجهادي وتحصيله العلمي في أدق الاختصاصات وأهم الجامعات؛ جيل يدرس ويقاتل ويصلي، ويفكك العقد التي يمكن أن تمنعه من تحقيق أهدافه. من «التحرير» إلى «تموز» إلى اليوم... لا يوم كسابقه.
قبل أن ينشر الإعلام الحربي الفيديو الأول لرحلة الهدهد بساعتين، كانت ثمة إمبراطورية تضع جانباً - في بيروت - كل تكبّرها واستكبارها وتهديداتها وعقوباتها لتبحث بتواضع وهدوء واتّزان - من دون تهديد ووعيد - عن حل مع «هؤلاء الشباب». شباب لم يلههم شيء عن تحقيق أحلامهم الأساسية الأولى، رغم كل ما فرّخته الآلة الأميركية من إلهاءات، ولم يحيدوا عن أهدافهم. مضوا من ذلك السهل البعيد والجنوب المنسيّ وما بينهما ليراكموا البناء، من دون كلل أو تعب، مُثبتين عند الأميركي قبل غيره أن التفاوض بالنسبة إليهم ما هو إلا مناسبة لتثبيت المكاسب وتشريع موازين قوى جديدة في انتظار جولة قتالية (عسكرية أو أمنية أو سياسية) مقبلة. لم تكد طائرة المبعوث الأميركي تقلع من بيروت حتى كان أبناء اللقيس يكشفون عن بعض قليل مما تعود به طائراتهم من سماء فلسطين: الصور الجوية مهمة لتهدئة كل من الجمهور الإسرائيلي والقيادات الإسرائيلية السياسية الذين لا يستوعبون ما تكرر القيادات العسكرية قوله لهم عن صعوبات الحرب مع لبنان ونتائجها التدميرية بالنسبة إلى الكيان. لكن الأهم هو قول الحزب إنه انتقل، بدفع من الشهداء والتزام عناصره من كونه حركة مقاومة متواضعة ومغمورة، ليصبح جيشاً شبه نظاميّ، لا يملك القوة البشرية والروح القتالية والعقيدة فقط، إنما الإرادة والوسائل: العقيدة والعلم، الإيمان والتكنولوجيا، الروح والسلاح، الحماسة والانضباط، الشعب والمؤسسة. فبموازاة الاستعراض الممنهج البطولي والرائع للوحدات البرية منذ السابع من أكتوبر، أظهر الحزب القليل من القدرات الكثيرة الخاصة بوحدة الاستخبارات التي تقول للإسرائيلي يومياً إنها ترى تفاصيل التفاصيل في الكيان فيما لا يستطيع هو أن يرى إلا ما تريد المقاومة أن يراه في لبنان، ووحدة الهندسة، ووحدة الدفاع الجوي التي يعلم الإسرائيلي أنها لم تستخدم في إسقاط المُسيّرات الخمس أكثر من عشرة في المئة من قدراتها مما يهدد بتعطيل سلاحه الجوي بالكامل، ووحدة الهجوم الجوي التي لا تكتفي باستهداف المنشآت العسكرية بدقّة غير مسبوقة، إنما تواكب عملياتها الانقضاضية بتسجيل مصوّر، والوحدة البحرية التي لم تضطر ظروف المواجهة الحزب إلى إظهار بعض مما في جعبتها.
هل كانوا يتغنّون فعلاً في مراهقتهم في سهل البقاع بصواريخ سام السوفياتية! هل كانوا يتخيلون للحظة أنهم سيصبحون هم الرقم الأصعب، وأنهم سيصلون إلى حيث هم اليوم؟ هل كان أمس، قبل أربعين عاماً، هو اليوم الجميل أم اليوم، وهل يمكن للغد أن يكون أجمل من اليوم؟ وهل سبق للإرادة أن قاتلت جنباً إلى جنب مع الإيمان والتكنولوجيا بتواضع قلّ نظيره؟ هل يمكن تخيّل مجموعة أو جماعة تفعل هذا كله خلال أربعة عقود فقط؟ وماذا بوسع الإسرائيلي أن يفعل إذا صحّت نظرية ابن خلدون في ما يخص الأجيال الثلاثة في الدول التي تتمتع بأعمار طبيعية، حيث دخل الكيان عصر الجيل الثالث أو «الجيل الهادم»، فيما حقّق الحزب هذا كله في ظل الجيل المؤسّس الأول الذي ما زال أمامه عمر طويل وعمل في ما يخص «البناء والعناية»، فيما لن يكتفي الجيل الثاني كما هو واضح بالسير على خطى الجيل الأول لجهة التقليد وعدم الحياد إنما يقلّد ويطوّر ويتعلم من كل الأخطاء.
لا بد من تخيّلهم في سهل البقاع، يغنّون: رفرف يا هدهد حامي أرض بلادي، اضرب لا ترحم والظالم البادي. قبل أن يقول لهم السيد: قلت لكم، أوهن من بيت العنكبوت.