ما نشهده منذ يوم 8 أكتوبر في جنوب لبنان، هو تعرّض دولة العدو للمرة الأولى في تاريخها لعملية تأديب متواصلة ومتصاعدة، على يد جهة عربية، من دون اللجوء إلى أعذار محلّية، كسروانية أو رأس بيروتية، مثل تبرير كل عمل حربي بضرورة الرد على عمل حربي إسرائيلي سبقه، وبالمنطق الدفاعي وحده.لقد لمست المقاومة في لبنان تطور المنطق السياسي عند قيادات العدو والتطورات البنيوية المتحكّمة به، وقررت أن هذا العدو يتوجّب تأديبه، وتهذيب قيادته وتفكيرها. وقد برّر الأمين العام لحزب الله دخول الحرب خلال خطابين. قال في الأول إنه توجّب على الحزب ردع العدو في لحظة جنونه، وإفهامه بأن حزب الله أكثر جنوناً منه. وفي الثاني، قال إنه في حال نجاحِ العدو عسكرياً في غزة، سيصبح لبنان من بعدها حتماً ساحة لحرب شاملة. طبعاً، جاءت هذه التفسيرات ملحقة بموجب مساندة جبهة غزة، الضرورية بحد ذاتها بغضّ النظر عن مفاعيلها الإقليمية، كي لا يفقد الصراع مع العدو، والمعركة النهائية المرتقبة معه، أحد أركانها الأساسية.
ولا شك في حال حزب الله، كما حماس، وقيادة العدو أيضاً، نتيجة تشكّل كل منهم ضمن أطر مؤسساتية، أن كل قرار يأخذونه يأتي استجابة لمجموعة من الأهداف والاعتبارات، وليس لسبب أو هدف أو اعتبار واحد. لا توجد قوة عقلانية تدخل حرباً من دون قياس مفاعيلها المحتملة بسلة من الاعتبارات المرتبطة بما لحياتها من مقوّمات. ذلك طبعاً لا يلغي وجود اعتبارات أخرى، مؤثّرة في عملية القرار، تؤدّي إلى فصله عن مسارٍ عقلاني «صافٍ»، وهو ربما ما تشهده قيادة الدولة الصهيونية اليوم. هذه العملية الحسابية، المتعددة الاعتبارات، غايتها التخفيف من الأضرار بقدر تحقيقها للإنجازات، ضمن إطار تعتريه قلة الوضوح وفقدان اليقين.
في لحظة أخذه، جاء قرار حزب الله دخول الحرب ضمن الحلقة المتسلسلة من التطورات والحتميات التي فرضتها عملية 7 أكتوبر في إطار صراع حركات المقاومة مع العدو، أي أنه جاء ضمن حسابات تشوبها نسبة من المراهنة ومن دون ضمانات مؤكّدة. مرور الوقت أثبت صوابية سلة مراهناته والقراءة العسكرية التي توجّهها. في أحد خطاباته (5 كانون الثاني 2024)، يشارك السيد حسن نصرالله جمهوره شيئاً من دهشته إزاء المسار الذي سلكته الأحداث، ويتحدّث عن «بركات التقرّب إلى الله ونصرة المظلومين في غزة»، عند معالجته لما يقدّمه التورّط في الصراع العسكري مع العدو من فرص سياسية جديدة، كانت غائبة في مرحلة الهدنة وغير متوقّعة.
هكذا أصبح قرار دخول الحرب، في التاريخ الطويل للصراع، تاريخ التراكم التعبوي للموارد ولامتلاك أدوات القوة بين المتصارعين، يشكل تجسيداً لنقطة مفصلية، وهو تجسيد لواقع أن العدو بات أضعف من المقاومة، أقل قوّة منها، ولا يحمي وجوده اليوم في صراعه معها إلا انتماؤه إلى منظومة الغرب العسكرية في المشرق العربي.
لقد أرسلت الولايات المتحدة حاملات طائراتها إلى مياه المنطقة خلال الشهر الأول للحرب، وكانت وظيفتها محددة بإفهام حزب الله بأن إسرائيل جزء من منظومتها وليست وحدَها، وأن إنهاءها عسكرياً يترتب عنه التصادم مع الجيش الأميركي… حتى إشعار آخر.
ثم سحبت أميركا أسطولها إقراراً منها بالقواعد الجديدة للاشتباك بعد ثباتها: أن تفترس إسرائيل الفلسطينيين ضمن مجال سيطرتها المباشرة، في مقابل أن تُؤدَّب عند الجبهة اللبنانية بشكل متواصل. لكن قرار سحب الأسطول يترجم أيضاً عجز الولايات المتحدة عن التأثير على حزب الله وحلفائه من خلال الهيبة العسكرية وحدها، كما فعلت ماضياً مع أكثر من نظام عربي.
لقد أقدم حزب الله على خطوة تأديب العدو، وهو في كل الأحوال ما كان سيقدم على أكثر من هذه الخطوة في الوقت الراهن، وأكّد منذ حينه على امتلاكه النهائي لهذه القوة.
* فنان تشكيلي وأستاذ جامعي