التطبيع في اللغة العربية يعني التعامل أو تقديم شيء غير طبيعي بطبيعته، مثل القمع أو الظلم، كما لو كان طبيعياً. التطبيع مع إسرائيل هو فكرة جعل الاحتلال والاستيطان العنصري يبدوان طبيعييْن وإقامة علاقات طبيعية مع النظام الاسرائيلي بدلاً من دعم النضال الذي يقوده الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه المشروعة «الطبيعية». تطبيع العلاقات مصطلح سياسي يشير إلى جعل العلاقات «طبيعية» بعد فترة من التوتر أو القطيعة لأي سبب كان، حيث تعود العلاقة طبيعية وكأن لم يكن هناك خلاف أو قطيعة سابقة. وفي علم الاجتماع، التطبيع الاجتماعي هو العملية التي من خلالها تُعتبر الأفكار والسلوكيات التي تقع خارج الأعراف الاجتماعية طبيعية. تبنّى الكيان الصهيوني المصطلح لترسيخ المفهوم أكثر من سعيه إلى توقيع اتفاقيات سلام مع دول الجوار العربية، لأن الكيان يعلم جيداً أن الاتفاقيات ستبقى سطحية واحتفالية إذا لم يتم تطبيع العلاقات بشكل كامل مع شعوب المنطقة العربية، والهدف من ذلك ترسيخ الاستعمار الاستيطاني وإعادة صياغته من خلال تطبيع نظام القوة والهيمنة الذي يتناقض مع كل ما هو طبيعي وعادي. وبهذه الطريقة، يجري ترويض شعوب المنطقة على قبول علاقات طبيعية مع إسرائيل دون حل عادل للقضية الفلسطينية والتعوّد على الاحتلال والفصل العنصري وجرائمه.

أي علاقات طبيعية مع نظام عنصري استيطاني؟
هل نظام الفصل العنصري سلوك مقبول على المستوى الدولي؟ كيف تعاملت الدول مع نظام بريتوريا العنصري في السابق؟ هل استطاعت التطبيع معه؟ المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة حاصر نظام جنوب أفريقيا العنصري اقتصادياً وثقافياً وتجارياً ودبلوماسياً، وفي النهاية سقط النظام العنصري. وكان للدول الأفريقية بالرغم من أوضاعها الاقتصادية المتردّية دور مفصلي في مقاطعة نظام بريتوريا، فهي أجمعت على معارضة العنصرية لأنها ترمز إلى بقايا الاستعمار الأوروبي. إذاً، المقاطعة هي التي ساندت المقاومة في جنوب أفريقيا ودعمت نضالها من خلال تضامن إقليمي مبدئي فعّال ومستدام، واعتبرت أن تحرير جنوب أفريقيا أمر غير قابل للتفاوض، وشكّلت خط مواجهة ومعارضة أدّى في النهاية إلى عزلة نظام بريتوريا وإسقاطه في بداية تسعينيات القرن الماضي. فلا يمكن التطبيع مع أنظمة تنتهك القانون الدولي وحقوق الإنسان ووجوده.


الثابت أن الاستيطان من الجرائم المستمرة، وهو سلوك إجرامي يقوم أساساً على تهجير السكان قسراً، والتهجير القسري هو جريمة حرب. فالترحيل القسري للسكان من الأراضي المحتلة يحظره القانون الدولي وفقاً للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة والمادة 85 من البروتوكول الإضافي الأول. وتكمن خطورة التطبيع في أنه يعترف بكيان قائم على أساس الاحتلال والاستيطان غير المشروع، متجاهلاً الجرائم الدولية التي ارتكبها العدو الإسرائيلي في حق الفلسطينيين منذ نشأته عام 1948 (راجع «القوس»، «إسرائيل مستوطنة لا دولة»، 20/1/2024 )

التطبيع مع الكيان الصهيوني يستوجب المسؤولية القانونية
التطبيع، بحسب دراسات قانونية متخصصة، هو صورة من صور الاشتراك الجرمي في جريمة قائمة منذ 75 عاماً تتمثل في الاحتلال العسكري لفلسطين. وتستند هذه الدراسات إلى أحكام وقرارات الشرعية الدولية والاتفاقيات الدولية، وأهمها القرار 194 المتعلق بحق العودة للفلسطينيين والتعويض عليهم، وهو ما يؤكد قيام المسؤولية المدنية على دولة الاحتلال. الأمر لا يقتصر على جريمة الاحتلال العسكري. فالمتتبع لتاريخ الاحتلال الإسرائيلي سيجد سجلاً حافلاً من الجرائم تتمثل في التطهير العرقي والمجازر وترويع السكان المدنيين وطردهم والاستيطان غير الشرعي وتهويد القدس، إضافة الى جرائم المستوطنين وبناء الجدار العازل. وكل من هذه الجرائم صدرت بشأنها سلسلة من قرارات الإدانة الدولية التي لم تلقَ أي صدى لدى المحتل الصهيوني. كل هذه الجرائم هي أفعال «طبيعية» بحسب مفهوم التطبيع! كل السلوكيات الصادرة عن الكيان الصهيوني التي يسعى التطبيع إلى اعتبارها «طبيعية» هي جرائم وفق القانون الدولي.
من يحمل لواء التطبيع يتحمّل مسؤولية التعويض عن الأضرار التي لحقت بالشعب الفلسطيني


التطبيع مع الكيان الصهيوني يمنح الشرعية لدولة الاحتلال ويحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة التي أقرتها الشرعية الدولية، وأهمها حق تقرير المصير. والمتضرر المباشر من التطبيع هو الشعب الفلسطيني. فقد تبيّن أن التطبيع قدّم للكيان الصهيوني التنازلات مرة بعد أخرى في مقابل تلاشي الحقوق الفلسطينية عبر إضفاء الشرعية على الاحتلال وجرائمه. وبالتالي، من يحمل لواء التطبيع يتحمل مسؤولية التعويض عن الأضرار التي لحقت بالشعب الفلسطيني بسبب التطبيع.

نتائج التطبيع القانونية
• التطبيع سيمنح الكيان الصهيوني اعترافاً بسيادته على فلسطين ويخرجه من دائرة العداوة لدى الدول المطبّعة وكأنها أعطت الحق له بالاحتلال والإبقاء على مستوطناته وبارتكاب المزيد من الجرائم. وسيكون التطبيع بمثابة مكافأة لممارسات الكيان الصهيوني.
• سيؤدي إلى طمس حقيقة أن فلسطين هي حق لشعبها الأصيل، وأن الاستيلاء عليها جاء مخالفاً للقانون الدولي الذي يحدد آليات وراثة الدول وتقاسم أراضيها، والمآل الطبيعي والقانوني هو الحق للشعوب والسكان الأصليين للمناطق التي كانت تشكل قسماً أو إقليماً من الدولة العثمانية التي كان من المفترض مع تفكّكها أن تؤول فلسطين إلى حكم وسيطرة الفلسطينيين.
• الاحتلال جريمة مستمرة وتلحق بها جرائم العدوان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. لذا، فالتطبيع جريمة تابعة وإبرام الاتفاقيات مع هذه الحالة الجرمية المستمرة منذ عام 1948 والتعامل مع الكيان الصهيوني أمنياً وعسكرياً وتجارياً وثقافياً وسياسياً وسياحياً يشكل حالة شراكة جرمية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ويشجع على الإفلات من العقاب.
• التطبيع لن يوقف سلوكيات الكيان الصهيوني الإجرامية وخطر توسعه الاستيطاني لن يتوقف. (راجع: «رأي استشاري قانوني: التطبيع العربي الرسمي مع الكيان الصهيوني: الجوانب والآثار القانونية» - مركز الزيتونة)
• من مقاصد التطبيع توقيع اتفاقيات مع الكيان الصهيوني، وهو بذلك يكرّس الاعتراف بالكيان. وهذا من شأنه أن يكرّس الاحتلال كحالة دائمة، وفي ذلك مخالفة أيضاً للقانون الدولي الذي لا يجيز أن يتحول الاحتلال إلى حالة دائمة، إذ إنه حالة أوجدتها القوة القاهرة، وهو واقع مؤقت لا يقوم على أي أساس من القانون.
• يشكل التطبيع مع إسرائيل دعماً وإسناداً لممارساته الخطيرة وانتهاكاته الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وممارساته المتعلقة بمدينة القدس، خصوصاً في ما يتعلق بقرار إعلانها كعاصمة أبدية للكيان، وفي ذلك مخالفة صريحة لقرارات الأمم المتحدة. (راجع «اتفاقيات التطبيع في ضوء قواعد القانون الدولي»، دراسة حقوقية قانونية)

التطبيع في زمن الإبادة الجماعية
إضافة إلى ما ذُكر أعلاه، فإن التطبيع قد يشكل انتهاكاً لاتفاقية الإبادة الجماعية. فالاتفاقية تنص في مادتها الأولى على أنه «تصادق الأطراف المتعاقدة على الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها». فهل عمدت الدول المطبّعة مع إسرائيل الى اتخاذ أي إجراء من شأنه منع إسرائيل من ارتكاب جريمة الإبادة؟
في وقت تواجه إسرائيل دعوى مقامة ضدها أمام محكمة العدل الدولية لانتهاكها اتفاقية الإبادة الجماعية، إضافة إلى توقّع صدور أوامر الاعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس حكومتها ووزير دفاعها بسبب الجرائم الفظيعة التي ترتكبها في غزة منذ تسعة أشهر، منتهكة في ذلك كل المواثيق الدولية والقرارات الأممية التي طالبت بوقف إطلاق النار، والتدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية، والتي تأمرها بوقف العمليات العسكرية في غزة وإلزامها بإدخال المساعدات الإنسانية، وقيام عدد من الدول بقطع علاقتها الدبلوماسية معها احتجاجاً على جرائمها في غزة، يصبح الحديث عن استئناف التطبيع مع هذا الكيان أمراً غير طبيعي ولا يمكن قبوله.