التهديدات سلاح إسرائيلي، يجري تفعيله عادة في مواجهة أعداء تل أبيب، لتحقيق أهداف سياسية أو أمنية أو اقتصادية، إلى حد بات جزءاً لا يتجزّأ من هوية إسرائيل وعقيدتها الأمنية.وإذا كانت التهديدات فعلاً اعتيادياً في المقاربات الإسرائيلية على مرّ السنوات الماضية، وسمة سائدة في ما يتعلق بالروتين اليومي بينها وبين الساحة اللبنانية، خصوصاً في مراحل اللاحرب واللاقتال، فالفرضية الأكثر معقولية هي أنها جزء لا يتجزأ أيضاً من مقاربة تل أبيب في مرحلة القتال المحدود ذي السقوف، كما هي الحال عليه الآن. وإذا كانت إسرائيل أيضاً تراهن على أن التهديدات ستخدمها في هذه المرحلة، فلا يعني ذلك، بالضرورة، أنها قابلة للتنفيذ في مرحلة الحرب نفسها، خصوصاً إذا كانت التهديدات ــ كما يتبين من ماهيتها وسياقها وسببها المباشر الذي كان أكثر بروزاً في الأسبوعين الماضيين ــ تُطلق لمنع الحرب الشاملة التي، للمفارقة، تهدد إسرائيل بها!
أضف إلى ذلك أن التهديدات تُعدّ عادة أداة لقياس واقع ووضعية الجهة المهدِّدة: كلما ارتفع أذى الجهة المقابلة وخطرها، ارتفعت وتيرة التهديدات ونبرتها، من دون أن يعني ذلك بالضرورة لجوء من يهدد إلى تنفيذ تهديداته.
تحكم المواجهة الحالية بين حزب الله وإسرائيل قواعد اشتباك يجري الالتزام بها لمنعها من التحول إلى مواجهة شاملة ثبت خلال الأشهر الثمانية الماضية أن الطرفين غير معنييْن بها. بعض هذه القواعد يجري الالتزام به بالمطلق، وبعضها الآخر يتبلور خلال القتال نتيجة اختبار حدود القوة وإمكان تجاوز الخطوط الصفر، من دون التدحرج نحو الخطوط الحمر، ومن ثم المواجهة الشاملة.
وما يتبلور من قواعد خلال القتال لا يتأتّى فقط من الأعمال الحربية نفسها ومن معاينة رد فعل الطرف الآخر منها، بل يلزمه أيضاً إطلاق تهديدات تكون مساعدة للأعمال الحربية لمنع انزلاقها نحو الأسوأ. فهدف التهديد في هذه الحالة هو منع ردة فعل الطرف الآخر، أو منعه من مواصلة ردة فعله التي يرى من يهدِّد (إسرائيل في هذه الحالة) أنها زادت عن حدها وفقاً لقواعد الاشتباك وسقوفه. علماً أن ارتفاع وتيرة عمليات حزب الله ومستواها ونطاقها، في المرحلة الأخيرة، كل ذلك جاء رداً على تجاوز إسرائيل، نطاقاً وحجماً، لقواعد الاشتباك، بما بات السكوت عنه يهدد وجود هذه القواعد.
في تهديدات إسرائيل، أيضاً، بالحرب وتدمير لبنان، و - وفق العبارة المحبّبة لوزير أمن العدو يوآف غالانت - إعادته إلى العصر الحجري، ما يرتبط كذلك بمبادرات سياسية تعمل عليها الولايات المتحدة أو جهات غربية أخرى بالوكالة عن إسرائيل. وهذه المبادرات لا تعطي النتائج المرجوّة منها، وفقاً للرهان الإسرائيلي، إلا مع إطلاق تهديدات وتخويف لبنان، بما قد يؤدي إلى تليين موقف حزب الله وتراجعه عن ثوابته.
إذا كانت إسرائيل تراهن على أن التهديدات ستخدمها في هذه المرحلة فلا يعني ذلك أنها قابلة للتنفيذ


في الأشهر الثمانية الماضية، رفعت إسرائيل وتيرة التهديدات بالاجتياحات البرية والتدمير و«الإعادة إلى العصر الحجري»، وفي نحو عشر مناسبات، قُصد منها أن تترافق مع مبادرات وسطاء وموفدين أميركيين وفرنسيين وغربيين، لإجبار حزب الله على الرضوخ للإملاءات الإسرائيلية. والتهديدات الحالية لا تختلف كثيراً عن ذلك، وإن كانت في الأيام الثلاثة الماضية تعبيراً عن مأزق وضيق وتعذّر استخدام زائد للقوة خشية الانزلاق إلى مستوى آخر من المواجهة، من شأنه أن يزيد من المأزق نفسه.
تبقى هناك التهديدات التي تصدر عن جهات إسرائيلية غير مسؤولة، وإن كانت جزءاً من الائتلاف الحكومي، كما هو حال الثنائي إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش والوزراء وأعضاء الكنيست التابعين لهما من اليمين الفاشي. فما يصدر عن هؤلاء له هدفان: الأول، التمايز والمزايدة لخدمة مصالح شخصية وحزبية. فالفاشي الذي لا يتحمل مسؤولية تطرّفه ولن يُطالَب بتنفيذ تهديداته كونه خارج دائرة القرار عملياً، ستكون مواقفه وتهديداته بارزة وحادّة، و«غير مسؤولة» و«غير منطقية» وفق توصيفات إسرائيلية.
الهدف الثاني لتهديدات هؤلاء هو التعبير عن حجم الأذى الذي تعاني منه إسرائيل في المواجهة، وإن كانت تحت سقوف، مع حزب الله. وهذا الأذى تصاعد كثيراً في الأسابيع الأخيرة، ما يحتّم على اليمين الفاشي التعبير عنه وإن عبر التهديدات ورفع سقوفها.
في المقابل، تصدر تهديدات عن جهات مسؤولة عن بلورة القرار وتنفيذه وتداعياته، كثلاثي القرار في تل أبيب: رئيس الحكومة ووزير الأمن (نسبياً) ورئيس الأركان. وهذه مغايرة تماماً للتهديدات الاستعراضية التي تصدر عن الثنائي الفاشي (سموتريش - بن غفير). وغالباً لهذه التهديدات مفرداتها المشروطة بـ: إن وفي حال ولمّا وإذا، أو مشروطة بتقدير يرتبط بفعل أو ردّ فعل من جهة حزب الله، أو أن نتيجة رؤية مستقبلية قد يكون التقدير أنها شديدة السوء، فيما جزء كبير منها، كما أسلفنا، مرتبط بمبادرات وطروحات سياسية تهدف إلى منع الحرب الشاملة، وتوسعة ما دونها من قتال.