في لبنان، كما في أرجاء العالم الواسع، علينا أن نصدّق ما لا يُصدّق. علينا أن نصدّق الأكاذيب حتى لو كانت واهية ونكذّب الحقائق حتى ولو كانت دامغة. وكيف لا نفعل ونهر الأكاذيب الجارف من المنبع الغربي في «الشمال الثري» إلى المصب الشرقي في «الجنوب المنهوب» يواصل الجريان والتدفّق؟ فضلاً عن الروافد الإقليمية التي تتهادى، والعيون المحلية التي تنفجر، فضلاً عن الغدران والسواقي والمستنقعات والآبار التي لا تعرف الجفاف أو التجفاف ولو في عزّ الصيف.ومع ذلك، وحتى لا ندخل في نفق يصعب الخروج منه، سنكتفي بما ابتُلينا به، تاركين للعالم أن يتدبّر أمره، مع وجوب الإشارة المسبقة إلى تعذّر الفصل بين أكاذيب العالم وأكاذيبنا واستحالته. فالترابط هو أساس الوجود وهويته، وفي ميدانه تدور الدوائر ويتشكّل الاجتماع. ثم إن لدينا ما لدينا من فائض أكاذيب يفرض علينا التواضع وركن «العالمية» جانباً، والانكباب على ما يعنينا من شأننا المباشر.
في جديد الأكاذيب اللبنانية، وبعيداً عن الكذبة اللبنانية المؤسّسة، وما يتصل بها، تحضر أكذوبة «الجامعة الأولى في لبنان والمنطقة». فهذه الجامعة، وعلى ما يتضح عند التدقيق، ليست كذلك أبداً. إنها في الواقع جزيرة من جزر الاستعلاء الطبقي والتشاوف الثقافي والاستفزاز الاجتماعي... وما كان لها أصلاً أن تتصدّر لولا أنها امتداد سرطاني من امتدادات المال والسلطة والعسكرة... وترجمة لهيمنتهم. المهم، وهنا بعض الجديد المفارق، لكونه يأتي من خارج السياق الذي يحكم عمل الجامعة ووظيفتها في تكريس التفارق الطبقي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتعميقه، أن الجامعة قد «قررت»، في حمأة حرب الإبادة على الشعب العربي الفلسطيني المرعية أطلسياً، التغريد خارج سرب «الأكاديميا» الغربية المصطفّة إلى جانب العدوان، والخروج عن تبعية «رسالتها» المكرّسة، وتكريم الجرّاح الفلسطيني غسان أبو ستة، من خلال منحه شهادة «الدكتوراه الفخرية». نعم. صدّق أو لا تصدّق. الجامعة المعروفة إياها قد فعلتها واختارت، هذه المرة الكسر مع التقاليد المرعية في التكريم السنوي واختياراته المعلّبة سلفاً، والإبحار عكس المألوف الغربي المحصور في تكريم أصحاب «الأيادي البيض» (اقرأ: الأيادي الملطّخة بدماء الملوّنين).
اللافت في القرار أو الإعلان أنه مرّ مرور الكرام ولم يسترع انتباه المعنيين ولا حتى «مناضلي» ربع الساعة الأخير، خصوصاً أولئك الذين صاروا من «أصدقاء» الجراح المقرّبين. فالتكريم، وتبعاً لمألوف الجامعة العريقة ولتوجهات رئيسها فضلو خوري، لا صلة له بما سبق ولا بما سيلحق، بل إن هذا التكريم هو بمثابة أكذوبة وإساءة واضحة ومباشرة إلى مثال قيمي وأخلاقي وإنساني عالٍ يجسّده الجراح أبو ستة، وهي قيم وأخلاق مناقضة لمنظومة القيم و«الرسالة التأسيسية» الخاصة بالجامعة. كما أن التكريم هذا ينطوي، في حقيقته، على أبعاد لا علاقة لها بفكرة التكريم ولا بتقليده، بقدر ما لها علاقة بالرغبة في اقتناص فرصة التطهّر المجاني من آثام وموبقات الوظيفة والدور المنوطيْن بها، ومحاولة منها ومن القائمين عليها في نيويورك لاكتساب أو سرقة شرعية أخلاقية متعذّرة، خصوصاً بعدما غمرت دماء أطفال ونساء وشيوخ غزة الشاشات، و«لوّثت» مانشيتات الصحف والمجلات العالمية، ونالت من هدوء أروقة الجامعات الغربية التي ضجّت بصيحات الطلاب المتضامنين مع فلسطين. إنها ضربة الشاطر الأميركي إياه، إذ ليس هناك من يستطيع توفير هذه المكاسب إلا رجل بقامة غسان أبو ستة. ولأن الأمر، في جوهره، كذلك، ينبغي علينا الحذر من تبعاتها، والتنبيه من أضرارها الجسيمة على الجراح المناضل كما على من يمثّلهم من أصحاب أخلاق وقيم في فلسطين ولبنان والعالم، من طلاب وأساتذة ومثقفين وأكاديميين اختاروا إعلان وقوفهم مع فلسطين برغم الأكلاف... الباهظة.
نعم، يجب أن نسأل هل علينا تصديق الخبر الذي أذاعه رئيس الجامعة الأميركي - المتلبنن فضلو خوري أم نصدّق ما نعرفه عن الجامعة وعن دورها المشبوه كامتداد إضافي للقواعد الحربية التي تزنّر المنطقة والعالم وتفخّخهما بالقتل والدمار؟
المؤكد أن علينا أن نصدّق سليم الحصّ الذي تقدّم بشكوى أمام القضاء اللبناني طالباً من «الجامعة» وقف استغلال اسمه في «برنامج سليم الحص للأخلاقيات الإحيائية» بعدما تبيّن له ولممثّلته في البرنامج الأكاديمية تاليا العراوي أن البرنامج يتعاون، من خلف ظهر الحص وممثّلته، مع مؤسسة على علاقة وثيقة بالكيان الصهيوني، وأن لرئيسها جوردان كوهين ومعظم العاملين معه في المناصب الإدارية علاقات مع الكيان ومواقف داعمة له، فضلاً عن ارتباط المؤسسة ببرامج تعاون مع جامعات إسرائيلية لدعم طلاب الطب الإسرائيليين، كذلك تبيّن أن ساندرا غولد (زوجة كوهين) ناشطة في حملات للاستثمار في الأراضي المحتلة وشراء أسهم في بورصة تل أبيب دعماً للكيان.
والمؤكّد، أيضاً، أن علينا، أيضاً، أن نصدّق الأكاديمي الفلسطيني ستيفن سلايطة الذي أُبعد عن الجامعة بسبب مواقفه الوطنية والقومية الجذرية، وإصراره على حقه في الجهر بها.
كما أنه من المؤكد أيضاً وأيضاً أن نصدّق الأكاديمية الرفيعة تاليا عراوي التي فُصلت قبل أيام من الجامعة بسبب قوميتها وعروبتها وتمسكها بالمبادئ والقيم الأخلاقية والإنسانية وانتصارها لفلسطين، كل فلسطين، من النهر إلى البحر.
غسان سلمان أبو ستة أكبر من هذه الدكتوراه المسمومة، والملوّثة بعرق الفقراء ومنهوبي العالم، بل وأذكى من أن تنطلي عليه الكذبة التي تريد تشويه الصورة النقية التي رسمها بصبر المناضلين وتضحيات القدّيسين من مقاومين وصامدين... الذين يواصلون المقاومة في غزة والضفة الغربية ولبنان واليمن والعراق.
نادراً ما يتاح لشخص أن يختصر قضية نبيلة وعادلة كما أتيح لغسان أبو ستة. فالرجل وبفضل ما يحوزه من سجايا نبيلة دفعت به نحو الكسر مع المألوف الدنيوي قد اختار أن يكون أحد حاملي صليب الآلام الفلسطينية والعربية. ولذلك، فإن مسؤوليته عن صون وحماية ما يمثّل أو يجسّد من قيم ومُثل تفرض عليه التنبه من الأفخاخ والسموم التي تترصّد من انتدبه الوعي والإخلاص والصدق والكرامة... لمهمة جليلة كمثل مهمته.
يبقى أن نقول إن صاحب الفكرة الذي توهّم أنه قد ضرب ضربته، كان وسيبقى مجرد كذبة تسعى. وأنَّى لهذه الكذبة أن تجد من يصدّقها إلا بعض... الصغار.