يُسمّى حرف الهاء في العبرية he، وفي اليونانية e، وفي العربية هاء، وفي الحبشية hoy. ويرى كثيرون- وانطلاقاً من فرضية غاردنر القائلة بأن الهيروغليفية المصرية هي أصل الأبجدية- أن الأصل التصويري لحرف الهاء هو العلامة الهيروغليفية المصرية A28 التي تمثل رجلاً مرفوع اليدين إلى الأعلى. والاعتقاد السائد أنّ هذه الصورة في الأبجدية السامية الأولى، كانت تشير إلى صوت حزن أو فرح أو مناداة أو تهليل. يقول منير بعلبكي حول هذا، مردّداً الأفكار السائدة حوله في الحقل:
«he (في اليونانية e): لهذا الحرف نشأة ينفرد بها عمّا عداه من الحروف. ونرى أنه مكوّن من مقطع واحد مفتوح، أي أنه مكون من صامت يتلوه صائت، ولا يضارعه في هذا إلا الحرف pe... أما ما يميّزه عن أسماء الحروف الأخرى (ومنها pe) فكونه ليس اسم شيء من الأشياء [كما هو الأمر مع pe]، بل اسم شيء يحدثه الإنسان في حزن أو فرح أو ابتهال. ويفضي إلى ذلك شكل هذا الحرف في النقوش السينائية، فهو صورة رجل رافع يديه، ثم حذف منها بعض التفاصيل فأضحت. فالواضع [واضع صورة الحرف] يريد الإيحاء بفكرة الصوت الذي يحدثه الإنسان في ابتهال أو حزن، إلخ» (منير بعلبكي، الكتابة السامية والعربية، ص 236).
وتبعاً لذلك، فقد افتُرض أن اسم الحرف في الحبشية (هوي) يمثّل نوعاً من النداء التنبيهي مثل «هِي، هيي»: «اسم الحرف الحبشي مأخوذ من hay» (هاملتون، الأصل الهيروغليفي للأبجدية، ص 285).
وما دمنا نملك اسماً للحرف في الحبشية، فيجب أن يكون هذا الاسم المدخل لفهم أصله التصويري، لأن الأسماء الأخرى تنقل لنا الصوت فقط. بالتالي، يجب فهم هذا الاسم قبل أن نطلق أحكاماً جازمة حول اسم الحرف. صحيح أن كلمة «هُوي» لا تعني شيئاً في الحبشية، لكن هذا لا يمنع افتراض أنها كلمة مستوردة من لغة أخرى، وأن لها معنى في تلك اللغة.
والحق أن هذا التقييم لأصل الحرف يتجاهل عدة أمور:
الأول: إنه تبعاً للمبدأ الأكروفوني، فإن الأصل التصويري لحرف من الحروف يجب أن يكون شيئاً ملموساً يبدأ اسمه بالصوت المقصود. وبناءً على التقييم أعلاه، فليس لدينا شيء ملموس انبثقت منه صورة الحرف. لدينا فقط الصوت (هـي، هيي) كأصل للحرف. وهو ما أشار إليه بعلبكي: «أما ما يميزه عن أسماء الحروف الأخرى ... فكونه ليس اسم شيء من الأشياء»، أي أنه ليس اسماً لشيء ملموس. فهو مجرد صوت لا غير. وهذا خرق واضح للمبدأ الأكروفوني.
الثاني: أن اسم الحرف في الحبشية يبدو اسماً وليس مجرد صوت: هوي hoy. وليس هناك ما يدعم الافتراض أن هذا الاسم منبثق من المناداة بـ هيي hay وليس هناك ما يبرهن عليه.
الثالث: أنّ الاستناد إلى العلامة المصرية للقول إن الحرف يمثل رجلاً يرفع يديه أمر ليس دقيقاً، بل ومضلل في ما يبدو لي. صحيح أنّ هناك نماذج عديدة لهذا الحرف في النقوش السينائية تظهره كما لو أنه رجل يرفع يديه مبتهلاً أو مهلّلاً، أو ما إلى ذلك، كما تظهر الصورة أدناه.

صور الحرف في النقوش السينائية من هاملتون


لكن هناك نماذج لا تتوافق مع هذا. ونموذج نقش وادي الهول المزدوج على الأخص لا يؤيد فكرة الرجل الرافع اليدين. وهذا أمر مهم جداً. فهذا النقش يُعتبر أقدم النقوش الأبجدية بين أيدينا. فهو يعود إلى القرن التاسع عشر أو العشرين قبل الميلاد.

نقش وادي الهول المزدوج


فقد ورد حرف الهاء ثلاث مرات في نقش وادي الهول المزدوج. ومن المرات الثلاث، هناك مرة واحدة فقط تظهر فيها صورة الحرف كرجل يرفع يديه إلى الأعلى. أما الاثنتان الأخريان فتعطياننا صورة رجل بيد مرفوعة وأخرى مخفوضة، كما يظهر الرسم أدناه.

نماذج حرف الهاء في نقش وادي الهول


وهذا أمر حاسم جداً في رأيي. وفي ظني فإن صورة الحرف التي ترفع يداً وتخفض يداً هي الأقدم. ووجودها في هذا النقش بنسبة 2-1 دليل على ذلك. وإذا ما تأمل المرء الصور التي ترفع يداً وتخفض أخرى (الصورتان اليمنى والوسطى) فإنه سيتوصل سريعاً إلى أنّها تصور حركة مشي سريع، أو قل حركة هرولة، تندفع فيها يد إلى الأمام ويد إلى الخلف، لا حركة ابتهال أو تهليل أو مناداة.
وحين نصل إلى هذا الاستخلاص، فإنه يذكرنا فوراً بأنّ المشي السريع، أو الهرولة، يُسمّى في العربية الهُويّ: «هوى يهوي هُوِياً إذا أسرع في السير. وفي حديث البراق: ثم انطلق يهوي أي يسرع... والمهاواة: شدة السير. وهاوى: سار سيراً شديداً، قال ذو الرمة: فلم تستطع مي مهاواتنا السرى/ ولا ليل عيس في البرين خواضع» (لسان العرب). وهذا يتواءم بقوة مع اسم حرف الهاء في الحبشية: هوي hoy. وهو ما يدعم فكرة أن اسم الحرف بالحبشية ليس مجرد صوت النداء والتنبيه (هيي).
وما دام أن كلمة «هوي» ليس لها معنى في الحبشية، فإنه من السهل افتراض أنها مستوردة من إحدى لغات الجزيرة العربية، وأنها تعني ما تعني كلمة «هُوِيّ» في العربية، أي السير السريع أو الهرولة. بالتالي، ربما كان علينا أن نشكل الكلمة كما هي في العربية «هُوِي».
وإذا صح هذا، نكون في الواقع قد توصلنا إلى الأصل التصويري لحرف الهاء: إنه الهوي، أي الركض بسرعة، أو الهرولة. لذا فصورة الحرف الأكروفونية تمثل في الأصل رجلاً يهوي، أي يركض الهوي.
ويمكن الافتراض كذلك أنه جرى لاحقاً التخلي عن الاسم (هوي) في الأبجدية التي نقلت كل من العبرية واليونانية عنها لأنه ومع الزمن بدت كلمة «هوي» صعبة وبلا معنى، كما جرى استبدالها بصوت الهاء فقط. وهو ما أدى إلى انطماس الأصل التصويري لهذا الحرف. لكن لحسن حظنا فقد احتفظت لنا الحبشية بالاسم الأصلي الذي يعكس بقوة الأصل التصويري للحرف. وهو ما يوجب علينا الاهتمام بالأسماء المختلفة الشاذة للحروف وعدم إهمال أيّ منها.
في كل حال، فإن احتمال وجود أسماء للحروف قادمة من الجزيرة العربية، سيرغمنا على التفكير بشكل مختلف في أصل الأبجدية وأسماء حروفها.

* شاعر وباحث فلسطيني