منذ روايته الأولى «أرض مطوّقة» (2015)، نجح الروائي السنغالي محمد مبوغار - سار (1990) في وضع اللبنات الأولى الصلبة التي أسّست لفوزه بجائزة «غونكور» الفرنسية هذا العام عن روايته «ذاكرة البشر الأكثر سرّية» (La Plus Secrète Mémoire des hommes ـــ دار فيليب راي/ جيمسان الفرنسية). الكاتب الشاب (1990) الذي يعيش بين بلده وفرنسا حيث أنهى أطروحة أدبية حول المذابح العرقية في رواندا والمتوّج بـ «جائزة أحمدو كوروما» عام 2015 في «الصالون الدولي للكتاب» في جنيف وبـ «جائزة البورت دوريه» عام 2018، يواصل تألّقه في هذا العمل، مبرزاً تحدي الاختيار بين الكتابة والحياة، وإشكالات المواجهة بين أفريقيا والغرب منذ الاستعمار لغاية اليوم. تتبدّى في نصوصه إشكاليات القيم المرتبطة بالأرض الأمّ والمنفى والهروب والهجرة في كتابة تعيد الاعتبار إلى النفَس الملحمي في الرواية الفرنسية. تيّار يضم مبوغار-سار إلى مجموعة من المجدّدين في الرواية «الملحمية» أمثال ماتياس إينار ومايليس دو كيرانغال ولوران غوديه. لكنّ كتابة مبوغار-سار تأتي من مكان أكثر قلقاً: كيف يمكن لأدب الهجرة أن يجعل القراء يعيدون التفكير في العالَم؟ كيف يمكن مكافحة القبح والعنصرية والتمييز بإعادة اختراع الخيال، وتوسيع أمكنة التلاقي ومدّ جسور النوايا الحسنة وتشريح الحساسيات الإثنية والثقافية من أجل إعادة تعريف «المشترك الإنساني» ومحاولة «ترميم العالم المتصدّع، إذ إن السرد يربط ويثبّت» كما يكتب مبوغار-سار. نقدم في «كلمات» عرضاً بانورامياً لروايات مبوغار-سار في طريقه نحو جائزة «غونكور» وأبرز ثيمات سرده وعالمه الروائي، هو الذي وصف كتابته كما يلي: «الرواية بالنسبة إليّ هي المكان المناسب الذي يمكن أن تكون فيه التجربة الإنسانية أكثر عمقاً وتوليداً للأسئلة. المكان الذي يمكن للمرء أن يلاحظ فيه سر الإنسان، المكان الذي يمكن للمرء أن يمر بمحنة... أن يمر بالتجربة»
محمد مبوغار-سار: الروحانية المحتقَرة في الغرب منقوشة في داخلي

«أرض مطوَّقة» (2015)
Terre ceinte

تدور الرواية في مدينة خيالية تسمّى «كاليب» Kalep. يبدو وقع اسمها مألوفاً على الأذن بتأثير نشرات الأخبار. بصيغتها الأجنبية، هي مزيج من حلب Alep في سوريا وكيدال (Kidal) في مالي: مدينة مسلمة تبدو آمنة مطمئنة حتى ظهور «أخوية» مسلّحة من نتاج الإسلام الراديكالي بين ظهرانيها. تتحول الحاضرة إلى مدينة مطوّقة كما يشير اسم الرواية: لا يعتم أي فكر بيوريتاني أن يتحول إلى طوق، ولا سيما إذا تدجّج بالسياط وحجارة الرجم والأحزمة الناسفة. كتب مبوغار-سار «الأرض المطوّقة» مستلهماً أحداث مالي، جارة السنغال، عام 2012 ومصعوقاً من ظهور الإسلام الراديكالي على أعتاب مكتبة تمبكتو، حيث كان الإسلام لا يزال يخرج من جراب المتصوّفة وأخلاق التجار المسلمين والتقاليد المحلية التي تطبع الشعائر الدينية بمسحة من البهجة والسحر والموسيقى والتسامح: «في السنغال، أدهشَنا ما حدث، لأن مالي قريبة جداً. يميل مواطنو بلدي، بتقاليدهم الصوفية التي يرونها حصناً ضد الأصولية إلى الاعتقاد بأن هذا النوع من الأشياء لا يمكن أن يحدث بين ظهرانيهم. لكنني كتبت هذا الكتاب لتذكير السنغاليين بالبقاء يقظين، ومواصلة التفكير فلسفياً في الإسلام وتوخّي الحذر، لأن مالي قبل نكبتها كانت تمتلك أيضاً هذا التقليد الصوفي». وكما في كل مدينة يُطبِق عليها الفكر الراديكالي، لا بد من ثلة تقول «لا». مجموعة تحاول على الأقل الحفاظ على سلامتها الذهنية و«القيمية» في مواجهة الإرهاب المفروض. ينجح مبوغار-سار في باكورته الروائية في أن يجعلنا ننزلق إلى أذهان المقاومين: صاحب الحانة، الطبيب، الممرضات، أساتذة الجامعات، بشر من الجنسين جعلهم الحظ أبطالاً، ليسوا بالضرورة أكثر شجاعة من الآخرين، لكنهم يتمرّدون في لحظة على القيود والأحكام التعسفية المفروضة عليهم: شكوكهم، مخاوفهم، هموم عائلاتهم، خروجهم عن الطاعة ولحظات شجاعتهم التي تظهر بادئ الأمر متهورةً، تنسج خيوط القصة والسرد، مع الإشارة إلى أن سار لم يصغ عوالم هؤلاء الأبطال بثنائية الأبيض والأسود التي يحبها الأصوليون أنفسهم: «حاولت تحطيم الواقع بين الحالات، ومحو أي شيء يمكن أن يجعل شخصياتي «جيدة» أو «سيئة». أجمل الأبطال هم من أصبحوا بالمصادفة. إنهم لا يسعون إلى العمل من منطلق البطولة، لكنهم يتصرفون بدافع الحب، لأنهم يؤمنون به في أعماقهم». أسلوبياً، يمكن القول بأن ما يميّز «أرض مطوقة» هو غياب الكتابة «المنمّقة»، إذ يفتتحها الروائي الشاب بأسلوب مباشر وأنيق للغاية رغم قساوته: حين يتكشّف للوالدتين المسلمتين رجمُ الابن والابنة بتهمة الزنا حتى الموت (هذا الرجم حدث بالفعل، لقد أصابني في الصميم وأصبح نقطة البداية للنص). تتأرجح الأمّهات بشكل مؤثر بين الذنب إذ لم يتمكنَّ من غرس القيم الحقيقية للدين في أطفالهم، والثورة ضد النظام المطلق. أمام المقاومين والأمهات المنكوبات، ينتصب قائد الشرطة الإسلامية: رجل طهراني صلب يطهّر الأرض من الرجس، ومقتنع أن الله في سوطه وحجارته.
يستحضر مبوغار-سار في روايته الأولى القاسية والعنيفة نثر القرن التاسع عشر بدلاً من الخطاب المنمّق للعديد من الكتّاب الأفارقة المعاصرين سائراً على خطى بالزاك وهوغو وفلوبير ودوستوفسكي والشيخ حميدو كين، «لديّ الكثير من الاحترام والحب والرعاية للكلاسيكيات التي لا أزال أجدها جديدة بشكل مدهش. أردت من خلال تبني أسلوب كلاسيكي قدر الإمكان أن أضفي على قصتي بُعداً عالمياً، نوعاً من القوة الأخلاقية. كان البناء الكلاسيكي ضرورياً لمثل هذا الموضوع الجاد والمأساوي».
أهمية رواية سار أنها تحمل ما يشبه النذير، فقد أراد أن يظهر أنّ الهدف الأساسي للميليشيات الإسلامية هم المسلمون الذين لا تُرضي ممارساتهم واعتدالهم وتقاليدهم الأصوليين: «إنّ أي شكل من أشكال إضفاء الطابع الجوهري على الدين هو أمر سخيف، سواء قام به الأصوليون أو يستهدف الأشخاص الذين يتشاركون الدين نفسه».

صمت الجوقة (2017)
Silence du Choeur

مفهوم «ضيافة الغريب» بعبارة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا نجده ماثلاً بقوة في «صمت الجوقة»، الرواية الثانية لمبوغار-سار الصادرة عن دار Présence Africaine. يلتقي اثنان وسبعون من «الراغازي» أو الشبان المهاجرين الأفارقة عبر البحر مع سكان بلدة الخيالية في صقلية: عبر مصير هؤلاء «الراغازي»، يضرب مبوغار-سار ضربة المعلّم الروائية من خلال توسيع أفق السرد الملحمي المعاصر، إذ إنّ تجديد الرواية بالملحمة لم يعد يترجَم إلى ديناميكيات الأرض التي يقوم البشر (المهاجرون) بغزوها أو احتلالها أو «تلويث صفائها»، والتي تقع ضمن النموذج الملحمي التقليدي، ولكن بواسطة تفجير أزمة القيم المرتبطة بالأرض من الجانبين، وبالتالي زيادة الاهتمام بأسباب النفي والرحلة والنزوح وتقسيم العالم بين معسكرين: معسكر مرافئ انطلاق مراكب الهجرة ومعسكر مرافئ وصولها.
كتابة تُعيد الاعتبار إلى النفَس الملحمي في الرواية الفرنسية


منذ البداية، يبدو وصول المهاجرين إلى القرية «الآمنة» تعكيراً للمنطقة الآمنة في أذهان أهلها، وبداية لجمع أقدار جانبَي البحر، وتشابك أقدار المزارعين الصقليين بعوالم ذوي البشرة السمراء الغريبة والاستثنائية الذين أول من يستقبلهم هو جمعية أهلية على أرض القرية. ينتظر «الراغازي» مصيرهم القانوني والإداري على يد دائرة الهجرة، ليوضع مفهوم «ضيافة الغريب» والمفاهيم الدينية والثقافية على المحك: في غليان القرية بين الشك والخوف واستسلام بعضهم للنظريات الجاهزة، يبرع مبوغار-سار في الارتقاء بروايته فوق ما يألفه القارئ في روايات الهجرة والهُوية. يجعل من القرية مكان اشتباك الإيجابي والسلبي بين الهُويات، ومحاولة الأدب والفن والمعرفة جعلها مختبراً لسؤال يبدو الأهم: كيف نعيش معاً بشكل أفضل؟ في «صمت الجوقة»، يبحث مبوغار-سار في تضاعيف الضمير الإنساني عما هو زائف وحقيقي، وفي ما تعنيه كلمة «استقبال». يشرّح الآليات الرهيبة لانعدام الثقة وسهولة الاستسلام للكسل الفكري، والبون الشاسع بين ما يطرحه الأدب والفن في المجتمعات الغربية نظرياً وتهافتهما عملياً عند أول اختبار حقيقي، إذ إنّ العار الذي يصيب الشخص في مكان الضيافة قد يكون أفظع مما يلحقه به مجتمعه الذي أدار ظهره له عبر البحر. يبرع مبوغار-سار في وصف توقعات وآمال وإحباطات طالبي اللجوء ووصف الالتزام والشكوك والتعب الذي يعانيه أولئك الذين يقررون مدّ يد العون في الجانب الآخر، أولئك الذين يسمعون الباب يُغلق في وجه الغرباء، ويشمئزون من صمت الكورال ويستشعرون في دواخلهم الحاجة إلى إلغاء الفوارق بين جانبَي البحر، وإلغاء نظرية المركز والهوامش، وتشذيب لغة «نحن» و«هم» للوصول إلى مشترك إنساني أغنى وأجمل وأعدل. أهمية عمل مبوغار-سار الثاني أنه يمثل ما يشبه المانيفستو لفهم وإحساس كل أبعاد وآثار المغادرة والوصول إلى أوروبا لرجال ونساء نجحوا في عبور أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. أسلوبياً، يجمع مبوغار-سار في «صمت الجوقة» الإثارة والكتابة الصحافية وملامح من الرواية الاجتماعية التي تُطعّم بألعاب السياسة وقصص الحب والمأساة، ويبرع في تقديم شخصياته ككائنات حساسة وحقيقية ومعذّبة وتنويعها من جانب «الراغازي» وأهل القرية في طيف اجتماعي واسع: ثمة كاهن وعمدة ونشطاء جمعية وسياسيون وفنانون وشاعر وناجٍ سابق أصبح وسيطاً ثقافياً. من ناحية أخرى، قد يتيح صمت الكورس التغطية على ضوضاء وسائل الإعلام، وكل نظريات المخاوف «الوقائية» والخروج من «مصائب الضيافة» وزعزعة مفاهيم التبعية والانفراد بالثروة نحو الثقة والعمل المتبادلَين لإعادة تعريف مفهومنا للصالح العام، ومحاولة «إعادة بناء العالم حيث يتداعى» والاستماع مرة أخرى إلى أغنية جوقة مشتركة.

«بشر أنقياء» (2018)
De purs Hommes

هي الرواية (دار فيليب راي) الأقل شهرة لمبوغار سار على الرغم من أهمية موضوعها كأول رواية تعالج وجهاً لوجه وبدون تورية السؤال المتفجّر للمثلية الجنسية في القارة. يبدأ السرد بفيديو ينتشر كالنار في الهشيم على وسائل التواصل في السنغال: يقوم حشد في مقبرة باستخراج جثة رجل، ثم سحبها وسحلها. تخلق هذه الحادثة اهتماماً يصل إلى حدّ الهوس عند نديني غوييه، أستاذ الأدب الشاب المصاب بخيبة أمل من التعليم والمتعَب من النفاق الأخلاقي لمجتمعه. من كان هذا الرجل؟ لماذا استخرج الحشد جثته؟ ثمة إجابة واحدة فقط: كان جور جيجين، كما قيل، أو «رجل - امرأة»، بعبارة أخرى، خنيث أو مثلي الجنس.
يشرع نديني في رحلة للعثور على ماضي هذا الرجل، بل يذهب للقاء والدته. تبدأ الشكوك والريبة حول الأستاذ، في الأوساط الأكاديمية كما في عائلته. شكوك وشائعات تزعزع استقراره وتعكّر صفو علاقته بصديقته راما التي يعشقها بشدة: أهمية عمل مبوغار-سار الثالث بالسرد المعهود في غناه وجماليته أنه يواصل مساءلة السلطة سواء اتّخذت شكل الإرهاب الديني أو تفوّق الرجل الأبيض أو العقل الذكوري وسؤالها الجوهري الذي يصوغه بطلها بشكل لا يقبل المواربة: كيف يجد المرء الشجاعة ليكون منسجماً مع نفسه بالكامل، من دون خيانة أو رياء أو نفاق. وما هو الثمن مقابل ذلك؟

«ذاكرة البشر الأكثر سرّية» (2021)
La Plus Secrète Mémoire des hommes

تدين رواية مبوغار- سار الرابعة بعنوانها إلى إحالة ذكية مقتبسة من «رجال التحري المتوحّشون» للروائي التشيلي روبرتو بولانيو. يأخذ الكتاب بنية السرد من بحث مجموعة من الشباب الرومانسيين على آثار أدبية لشاعر مفقود. «أستطيع أن أقول إنه حرّرني وسمح لي بوضع الأدب في قلب الرواية. لقد منحني إبداع اللغة، وروح الدعابة، ومفارقة بولانيو الشجاعة للمخاطرة بنفسي في هذه المنطقة»، يقول مبوغار-سار في أحد أحاديثه الصحافية. أهدى الروائي الشاب عمله إلى يامبو أولوغويم (1940-2017). عام 1968، حصد هذا الكاتب الشاب من مالي «جائزة رودونو» عن روايته «واجب العنف» التي وُصفت في حينها بأنها عمل شاعري وشجاع ومتفجّر، لكنّ اتهامات بالاقتباس وقلّة الأصالة حطّمت بشكل واضح الكاتب الذي غرق في المرارة والعزلة بعد محاولات كتابة ونشر يائسة، ليحيلنا النص إلى قصة مماثلة حدثت قبل ثلاثين سنة مع كاتب آخر. تبدأ الرواية عام 2018، حين يكتشف ديجان لاتير فاي، وهو كاتب سنغالي شاب، كتاباً أسطورياً نُشر في باريس عام 1938، لمؤلِّف مفقود الأثر يُدعى ت.س. إليمان، بعنوان «المتاهة اللاإنسانية». لا نعثر منه في الرواية على سوى الجملة الأولى، لمؤلِّف يُعرف فقط بأنه لقّب بـ «رامبو الزنجي» على إثر الزوبعة التي أثارها كتابه. ينطلق ديجان، مفتوناً، في تتبع درب تي. س. إليمان الغامض. أي حقيقة تنتظره وسط هذه المتاهة؟ محاولاً أن يمسك بخيط أريان لتحرياته التي تضع وجوده كله على المحك، يتردد ديجان في باريس على مجموعة من المؤلفين الأفارقة الشباب الذين يعيشون صخب الحياة والجنس ودسائس الشهرة الأدبية، ويطرحون أسئلة قلقة حول جدوى الكتابة والالتزام السياسي والإبداع في المنفى، ومنابع الكتابة بين هويتين والوضع المذل للأدباء الأفارقة الفرنكوفونيين الذين يُطلب منهم الكثير من «الأكزوتيكية» بدل اختراع لغة جديدة والكتابة بلغة «مدبلجة»، ومهجّنة تروق للأوساط الثقافية الباريسية.
في لقاء يبدو عابراً أول وهلة مع كاتبة أفريقية في باريس، يحصل ديجان أخيراً على نسخة من «المتاهة اللاإنسانية» تسقط عليه مثل الوحي. «لقد بحثت أيضاً لفترة طويلة عن «واجب العنف»، وقرأته للمرة الأولى في إصدار تنقصه صفحات عدة! إنه كتاب أساسي يفتح فضاءات غير مستكشفة ورواية للتاريخ»، يقول مبوغار سار. تسلّح ديجان لاتير فاي بكتاب إليمان للبحث عن مؤلفه من خلال الشهادات والمحفوظات. في هذا الجزء الذي لا تنقصه السخرية اللاذعة، يحاكي الروائي استقبال الصحافة للكتاب في ذلك الوقت. ولأن القصة تحدث خلال الفترة الكولونيالية والعلاقة الصعبة بين فرنسا وسكان مستعمراتها، تتبدّى أبشع صور العنصرية في الجدال حول كتاب إليمان كما حول كتاب أولوغويم: مبارزة لفظية بين اليمين واليسار، وخطاب علمي كاذب للصق تهمة الانتحال والسرقة الأدبية بالمؤلفين. بعد حصوله على النسخة، تتوسّع الرواية إلى روايات أصغر تحيط بالشخص الغائب لإليمان، ذهاباً وإياباً كما في شريط سينمائي: بعد بداية إيزوتيكية وحشية، تفتح الكاتبة الأفريقية أو «الأم العنكبوت» ـــ كما يسمّيها الكاتب الشاب ــــ كل الطرق نحو أفريقيا التي تشبّعت في روحها وذاكرتها كما في المؤلف الأسطوري لـ «متاهة اللاإنساني». هذه العودة إلى أفريقيا الريفية، المشبعة بقوى خارقة للطبيعة، عالقة بين الرغبة في الاستيعاب في النموذج الاستعماري ومقاومة أسلوب الحياة التقليدي، تتكشف للكاتب مثل الرؤية المقلقة لشدة مغايرتها للعالم الباريسي، ومخيفة في لغتها الحقيقية، حيث البعد الطوطمي للزمان والمكان، والأحياء والأموات، تستدعى من خلال أقارب إليمان وظل والدته. هذا الاستحضار المتكرر لعالم سريالي لا يبدو «خفيفاً» أو استيتيقياً مزخرفاً بأي حال من الأحوال. بالنسبة إلى مبوغار سار «إنه بُعد حاضر جداً في الخيال العميق لثقافتي، ومعترف به بشكل طبيعي. هذه الروحانية المحتقرة في الغرب منقوشة في داخلي. لها حرفياً قيمة شعرية وتضفي عمقاً على الواقع. أنا أنتمي إلى عائلة مكوّنة من سبعة أولاد تشكّل خيالهم من خلال الحكايات والألعاب اللغوية وتلاوات أمي وجداتي وخالاتي وأبناء عمومتي. ولهذا السبب غالباً ما تنقل النساء القصة». يبتعد السرد عن أفريقيا للتوسع في تاريخ أوائل القرن العشرين، فنتابع إليمان من خلال بقايا الحرب العظمى بحثاً عن آثار والده، الذي اختار الانضمام إلى فرنسا. ثم نجده في الأرجنتين، حيث يتحرر من صورته المستعمرَة ويحتفل به المجتمع الأدبي من دون تمييز، ونفهم في ما بعد الأسباب الحقيقية لهذه الإقامة في أميركا اللاتينية، وهي تتعلق بساعات الاحتلال المظلمة، ما دفع بعض النقاد إلى السؤال عن ضرورة هذا الالتفاف السردي في كتاب مليء بالفعل. سؤال أجاب عنه مبوغار-سار بما يلي: «في هذا السياق، بدا لي مستحيلاً تجاهل النازية وعواقبها». تنتهي «ذاكرة البشر الأكثر سرّية» في السنغال. ففي رحلة البحث عن بطله، يصل ديجان إلى داكار في منتصف تظاهرات الطلاب عام 2018، وتُطرح عليه مسألة الالتزام وجهاً لوجه. في رسالة طويلة، أخبره رفيقه الكونغولي موسيمبوا أنه ينسحب من العالم الأدبي المصغّر للانخراط في عمل جماعي في بلاده. اختار ديجان وجهة إكمال سعيه للعثور على آثار إليمان. من سيربح في النهاية، الالتزام أم الأدب؟
يتركنا مبوغار-سار هنا في منطقة رمادية، في «البقعة العمياء» حيث لا إجابة. إن القوة السردية المحكمة للرواية، وتطعيمها بروح شعرية في كثير من مقاطعها وروح الدعابة فيها، وتخمتها بالتفاصيل، وحفرها في جرح الاستعمار الذي لم يُشف منه الغرب جعلتها تستحق «جائزة غونكور» عن جدارة. هي أولاً وأخيراً تجعل من ذاكرة البشر الأكثر سرّية مساحة لتقاسم الرغبة في فهم الآخر وتوسعة المشتركات الإنسانية والسكنى في عالم أفضل.