منذ بداية العام الجاري، تتوالى الانتخابات التمهيدية الأميركية، استعداداً لعقد المؤتمرَين العامَّين للحزب الجمهوري بين 15 و18 تموز، والحزب الديموقراطي بين 19 و22 آب، واختيار المرشحَين الرسميَّين ونائبَيهما، للتنافس في الانتخابات الرئاسية. وعلى رغم حسْم النتيجة، منذ آذار، لناحية عدم وجود منافسين لكلّ من جو بايدن ودونالد ترامب في حزبَيهما، إلا أن استمرار إجراء التمهيديات في أغلب الولايات الأميركية عُدّ مناسبة لفحص عدد من المؤشرات الخاصة بالرئاسيات. وبالنظر إلى تكرار مشهد منافسة عام 2020، من المرجَّح أن تتكرّر المواجهة بين الجمهورَين الأيديولوجيَّين، على وقع الدعاوى والدعاوى المضادة التي رُفعَت وتُرفَع ضدّ المرشّحَين وعائلتَيهما، واحتدام النقاش حول الاقتصاد والبطالة والتضخّم وقضايا الإجهاض والهجرة، والتي تشكّل، بالنسبة إلى الغالبية الساحقة من الناخبين الأميركيين، الهواجس الأكبر التي تدفعهم إلى التصويت في تشرين الثاني المقبل.وبخلاف ما درجت عليه العادة في الانتخابات الرئاسية الأميركية، تتميّز انتخابات هذا العام بوجود عامل خارجي، هو العدوان الصهيوني على غزة، من شأنه أن يشكّل المفاجأة الحاسمة في ترجيح كفّة الفائز فيها. لذلك، كان من الضروري فحص النتائج التي ظهرت حتى الآن في الانتخابات التمهيدية وتحليلها (34 ولاية من أصل 50، من ضمنها 6 ولايات متأرجحة من أصل 7)، لتقييم مدى تأثير التصويت الاعتراضي داخل الحزب الديموقراطي على حظوظ بايدن. وتُظهِر الأرقام أن حوالي 773,000 مقترع من أصل حوالي 13 مليون مقترع ديموقراطي أدلوا بأصوات اعتراضية، وهو ما يعني أن النسبة المئوية للمعترضين من مجموع كل المصوّتين الديموقراطيين تبلغ حوالي 6%.

الإقبال الضعيف على الاقتراع
في كل الولايات التي نُظّمت فيها انتخابات تمهيدية للحزب الديموقراطي، سُجّل ضعف في إقبال الناخبين المسجَّلين على أنّهم ديموقراطيون أو من الذين ذهبوا ليقترعوا للديموقراطيين، مقارنة بأعداد المشاركين في انتخابات عام 2020 التمهيدية. وفي عرف الانتخابات الرئاسية الأميركية، عندما يترشّح الرئيس الممارس للسلطة في ولايته الأولى لولاية ثانية، لا تندفع القاعدة الشعبية لحزبه إلى صناديق الاقتراع في التمهيديات، على اعتبار أنه سيفوز بترشيح حزبه رسميّاً لولاية ثانية، على أيّ حال. ولكن، عادةً ما تتراجع نسب الإقبال في مثل هذه الحالات إلى النصف تقريباً، وليس أدنى من ذلك، كتأكيد للالتزام الحزبي للقاعدة الانتخابية. وكمثال يُضرَب على ضعف الإقبال، شارك في انتخابات «الديموقراطي» التمهيدية في ولاية نيويورك 302,465 مقترعاً من أصل حوالي 5.7 ملايين، يشكّلون قاعدة الديموقراطيين في الولاية التي تعدّ معقلاً لهم، في حين أن عدد الديموقراطيين الذين شاركوا في انتخابات 2020 التمهيدية بلغ 1,759,039 مقترعاً. وإذ لا يمكن الجزم بأسباب ذلك الضعف، فمن الواضح أن ثمة عدم رضا على شخص الرئيس لأسباب كثيرة، من جملتها: سنّه، ومواقفه الداعمة للإبادة الجماعية في غزة.
تتميّز انتخابات هذا العام بوجود عامل خارجي، هو العدوان الصهيوني على غزة، من شأنه أن يشكّل المفاجأة الحاسمة في ترجيح كفّة الفائز فيها


التيار التقدّمي يفرض نفسه
عندما ترشّح «عرّاب» التيار التقدّمي في الحزب الديموقراطي، السيناتور بيرني ساندرز، لانتخابات عام 2020، خشي التيار التقليدي الليبرالي من حصول منافسة لانتزاع بطاقة ترشيح الحزب. وبالعودة إلى نتائج الانتخابات التمهيدية بين بداية 2020، وبداية نيسان من ذلك العام، سيتبيّن أن ساندرز كان قد فاز بحوالي 1120 مندوباً، في مقابل 1900 لبايدن. لكن تفشّي جائحة «كورونا» (نيسان 2020) حال دون استكمال التمهيديات في عدد من الولايات، ليخرج ساندرز، في 23 نيسان 2020، عبر الفيديو ويعلن انسحابه، داعياً مناصريه إلى دعم بايدن. وآنذاك، شكر الأخير منافسه على مبادرته، ووعده بأن يأخذها في الاعتبار إذا فاز ودخل البيت الأبيض (قاصداً التعيينات في الإدارة من تيار ساندرز). على أن بايدن لم يعيّن أيّاً من أنصار ساندرز في مناصب عالية، بل اقتصر الأمر على مناصب مسؤولي أقسام في وزارات الخارجية والمواصلات والإسكان والتجارة ووكالات فدرالية أخرى، في ما نُظِر إليه على أنه تنكّر للقاعدة التقدّمية وفضْلها في فوز «الديموقراطي» في انتخابات عام 2020. وبالتالي، فإنه لدى محاولة قياس ردّ فعل أنصار التيار التقدّمي خلال العدوان على غزة، ينبغي الأخذ في الاعتبار العامل الانتخابي وخذلان التيار الليبرالي للتقدميين ومحاولة استغلالهم مجدداً لتحقيق الهدف القديم المتجدّد: «عدم السماح لترامب بالحصول على ولاية جديدة».

التراجع حتى في الولايات المضمونة
منذ ورود نتيجة الانتخابات التمهيدية في ولاية ميشيغان، في 27 شباط الفائت، ظهر أنّ الحالة الاعتراضية على أدائه، وخصوصاً لجهة دعمه الحرب على قطاع غزة، ليست محصورة في صفوف العرب والمسلمين، كون الولاية تُعدّ معقلاً للجاليتَين؛ إذ تبيّن مع توالي الانتخابات في ولايات أخرى، أن الحالة الاعتراضية عابرة للانتماء القومي والديني. ففي كارولاينا الشمالية، بلغ عدد مَن صوّتوا بـ«لا خيار» 88,967، وفي ولاية واشنطن المضمونة للديموقراطيين صوّت 89,245 بـ«غير ملتزم»، وفي ماساتشوستس وكولورادو ومنيسوتا وويسكنسون وإلينوي، تراوح مجموع التصويت الاعتراضي في كلّ ولاية بين 45,000 و60,000 مقترع، وهي أرقام عالية بالنظر إلى حجم الإقبال على الاقتراع لدى الديموقراطيين.

بايدن يخسر نصف الولايات المتأرجحة
حصلت الانتخابات التمهيدية في الولايات السبع المتأرجحة الأساسية، وكان آخرها في ولاية بنسيلفانيا (في 23 نيسان)، ذات الـ 19 صوتاً في المجمع الانتخابي. ولدى دراسة نتائج انتخابات تلك الولايات، يتّضح أنه إذا جرت انتخابات 5 تشرين الثاني المقبل بمعطيات وأمزجة نتائج التمهيديات، فإن آمال بايدن في اقتناص أصوات ثلاث ولايات منها على الأقل (تمتلك 41 صوتاً في المجمع الانتخابي) تكاد تكون معدومة. ففي كارولاينا الشمالية مثلاً، تبدو حظوظه مستحيلة، نظراً إلى فقدانه حوالي 12,7% من الكتلة التصويتية التي كان قد حصل عليها في انتخابات 2020، وفي الأساس كان ترامب قد تغلّب عليه في الولاية آنذاك بفارق حوالي 74,000 صوت. أمّا في ولاية ويسكنسون، فقد اقترع حوالي 47,000 ديموقراطي بـ«غير موجَّه»، ما يعني حوالي ضعف عدد الأصوات التي فاز بها بايدن على ترامب، أي أن التيار الذي كان يدعو الديموقراطيين هناك إلى المشاركة والاقتراع الاحتجاجي نجح في إيصال رسالة كبيرة عنوانها فقدان بايدن أصوات الولاية العشرة في المجمع الانتخابي.
وفي ولاية ميشيغان، حيث ثقل الجالية العربية والإسلامية، أصبح معلوماً أن الـ 101,000 الذين اقترعوا بـ«غير ملتزم» في 27 شباط الفائت، إنّما يمثّلون قاعدة لا يستهان بها في ولاية تتأرجح منذ أكثر من عقد. صحيح أن الفارق بين بايدن الفائز وترامب الخاسر في 2020 كان 154,000 صوت، لكن كان الفارق بين ترامب الفائز وكلينتون الخاسرة عام 2016 حوالي 11,000 صوت فقط في الولاية. وهذا يعني أن أصوات الولاية الـ 16 في المجمع الانتخابي ستكون عصيّة على بايدن. أمّا ولاية نيفادا، فقد حقّقت نسبة الاقتراع الاحتجاجي فيها حوالي 5.5% بواقع حوالي 7300 صوت، فيما فاز بايدن بأصوات الولاية في 2020 بفارق 33,596 صوتاً فقط. يتبقّى أن تُراقب حركة الاحتجاج في ولاية أريزونا المتأرجحة، والتي لا تسمح قوانينها الداخلية باحتساب مجموع البطاقات الانتخابية بشكل مفصّل، لمعرفة عدد الأوراق اللاغية التي كُتبت عليها خيارات أخرى، أو الأوراق اللاغية التي بقيت فارغة.