كانوا ثلاثتهم يجلسون على الأرضية الخشنة الواسعة محاطين بنباتات تعيش في علب من التنك، زهور الخبيزة وريحان بلدي وفم السمكة وريحان أكثر. والدي ومحمد القيسي وحمدة أم محمد، كانت حمدة ترتجل أغانيَ وتغني بصوتها الخشن الغريب الذي لم أتمكن الى الآن من فهم جماله، تختار مطلعاً رائجاً بعد أن تتأمل يديها، ثم تبني عليه محافظةً على الإيقاع، مع وقفات طويلة يمكن خلالها سماع النباتات وهي تتنفس في علب التنك، بينما الشاعران أبي ومحمد يواصلان الإصغاء والتدخين.
من النافذة كان يصلني صوت القيسي وهو يقرأ مسوّدة قصيدته الجميلة «الحداد يليق بحيفا»، كان ذلك في منتصف السبعينيات.
من تلك الجلسات سينهض القيسي، الذي أحبَّه والدي كما أحبَّنا، وسيفتح أدراجي ويقرأ مسودات المراهقة ويختار واحدة، سيحررّها بقسوة وسيضع لها عنوان «قصائد أولى»، وفي الداخل سيضيف ويحذف، وسأجد أنه اختار «زهرة الجلنار» بديلاً لزهرة لم أعد أذكرها الآن. ثم ستظهر تلك القصيدة في مكان بارز في ملحق جريدة «الدستور» العُمانية.
تلك كانت المرة الأولى التي أرى فيها اسمي مطبوعاً في صحيفة، وتلك كانت قصيدتي الأولى المنشورة. لم تكن بالضبط قصيدتي، لم تكن لي تماماً، كان صوت القيسي وحزنه الخاص يلمعان في مقاطعها القصيرة وعنوانها، تحديداً في «زهرة الجلنار» التي بقيت عالقة في ذاكرتي كدليل واضح على أن القصيدة لم تكن لي.

قصيدتي الأولى المنشورة لم تكن بالضبط قصيدتي، لم تكن لي تماماً، كان صوت محمد القيسي وحزنه الخاص يلمعان في مقاطعها القصيرة وعنوانها

استطاعت القصيدة المنشورة، رغم كل ما اكتنف علاقتي بها من التباس وتشوّش، أن تزحزح موقعي وأن تهزّ فكرة أنني أكتب لنفسي ولقصص الحب الصغيرة التي أتعثر بها أثناء دوري كرة السلة، ستعيدني الى الأدراج نفسها والى المسودات التي لم أفكر بإنهائها، كانت قصائد تأتي مرة واحدة وتبقى كما جاءت.
محمد الظاهر الشاعر والصحافي وصديقي وزميل غرفتي في السكن الداخلي لـ «معهد ناعور»، كان صلتي الوحيدة بالوسط الثقافي، حماسته لدفعي نحو عالم الكتابة، ثقته بما أكتب وطريقته في أخذ تلك الكتابات على نحو جدّي منحتني شيئاً من الثقة، ودفعني، ربما، للحفاظ على تلك المسودات وتكديسها في دفاتر وعدم إتلافها، كما كنت أفعل قبل أن ألتقيه.
إحساس آخر لا يمتّ للشعر هو الذي دفعني لإنهاء قصيدة ثانية من تلك المسودات وإرسالها بالبريد العادي، مكتب بريد بلدة «الرصيفة» التي لم تكن قد حصلت على لقب مدينة بعد، الى المحرر الثقافي في جريدة «الرأي»، والذي كان في حينها لحسن الحظ جمال أبو حمدان. كانت قصيدةً تصل الصحيفة الرئيسية في البلاد من مكتب بريد شبه ريفي موقعة باسمٍ مجهول، رسالة لا تتمتع بنفوذ محمد القيسي واحتفاء أصدقاء والدي ومحبيّه. قصيدة بدون حماية على الإطلاق عليها أن تقطع طريقها وحدها سيراً على قدميها، ذلك كان هاجسي وسري الشخصي ورهاني أيضاً.
ظهرت القصيدة بعد ثلاثة أسابيع في الملحق الثقافي للصحيفة، منحها جمال أبوحمدان احتفاء خاصاً بمساحات واسعة وأضاف إليها تخطيطات ملائمة، والأهم أنه تركها كما هي مع تصحيحين لغويين وتصحيح ثالث في إملاء الهمزة. سألتقي جمال بعد خمس عشرة سنة وستربطنا صداقة عميقة، وسأبقى دائماً ممتناً له بسبب تلك القصيدة التي انتشلها من ركام البريد، ومن أجل صداقة نادرة مع إنسان حقيقي.
سترفض مجلة «أفكار» قصيدتي الثالثة، ولكن رئيس التحرير سيكون من التهذيب بحيث بعث الى عنوان المرسِل بطاقة اعتذار رقيقة على ورق رسمي ناعم، ما زال ملمس رسالة الاعتذار تلك على أصابعي الى الآن.

سالم النحاس الذي كان مشرفاً على إحدى المطابع أخذ قصائدي وقصائد لمحمد الظاهر وطبعها خلال أقل من ثلاثة أيام في ديوان مشترك، أطلقنا عليه عنوان «عرض حال للوطن»

مع انتهاء دوري كرة السلة تلك السنة، وصلتُ إلى مبنى «رابطة الكتاب الأردنيين» في شارع ابراهيم طوقان في جبل اللويبدة، التقيت بميشيل النمري وسالم النحاس، كانت انتخابات الرابطة على الأبواب وكان التنافس واضحاً وقوياً بين «الحزب الشيوعي الأردني» و«الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» على قيادة الرابطة، وكان سالم ممثل الجبهة. حيوية سالم النحاس ومباشرته وصداقتي مع ميشيل هي التي قرّبتني من قائمة الجبهة وليس برنامجها.
لم أكن قد أصبحت عضواً في الرابطة، وكان أحد شروط العضوية وأهمها هو أن يكون في رصيد الكاتب كتابٌ واحدٌ على الأقل. سالم النحاس الذي كان مشرفاً على إحدى المطابع أخذ قصائدي وقصائد لمحمد الظاهر وطبعها خلال أقل من ثلاثة أيام في كتاب مشترك، أطلقنا عليه عنوان «عرض حال للوطن»، متأثرين، في حينها، برواية «الساعة الخامسة والعشرون» التي استعرتها من مكتبة أمانة عمان، وقد صمم الغلاف حينها الفنان عبد الرؤوف شمعون.
ستبقى علاقتي بتلك المجموعة المشتركة التي صدرت عام 1978 وجمعتني بمحمد الظاهر وسالم النحاس وميشيل النمري ملتبسة وخاصة. لم ننتظر طويلاً. لم نقلق لأسابيع ولم نطرق أبواب الناشرين، ناشرنا كان «ماكينة طباعة»، وعامِلَيْن سهرا ليلة طويلة تحت إشراف سالم النحاس.
هكذا حصلنا على كتابنا الأول الذي منحنا عضوية الرابطة لننتخب قائمة الجبهة الديمقراطية. هذا ما فعلته وما فعله محمد الذي كان أحد أبناء فتح الحقيقيين.
المفارقة أن الكتاب سيحصل على جائزة الرابطة في أول دورة لها.