حمام وتعاويذ
في الفجر يمد نظره نحو مشهد النساء، يقترب من النافذة، يطل على السوق، يرى العباءات السوداء تتدفق في الشارع الصاخب، الشارع الضيق الطويل، حتى إذا ما اكتملت دقات السادسة صباحاً، كانت النساء قد أخذن أماكنهن صفوفاً طويلة على جنبات السوق تحت جدران البنايات القديمة، يتحدثن بأصوات مرتفعة، ويثرن الغبار حولهن وحول الناس الذين يروحون ويأتون، كما لو أن عملهم هذا الذهاب وهذا الإياب.

النساء اللواتي يشبهن الجراد العجوز بملابسهن الملونة وعباءات أجسادهن اليابسة، نساء بقدود مثل الأعواد، دقيقة وطويلة، وضحكات صاخبة، فرحة، يفرحن ويبعن أشياء كثيرة، أو يضحكن فقط، ضحك كأن شياطين صغيرة تخرج من صدورهن الهزيلة أو كلاماً ينبعث من حلوقهن مع رائحة اللبان. نساء ومع ذلك يضحكن بعمق، بعضهن جئن من القرى المحيطة، وبعضهن جئن من الحارات المجاورة يبعن ويشترين، يبعن الخبز والتمر والحمام والتعاويذ ويشترين الأقمشة، نساء ورجال يتداولون أساطير شعبية ومقولات قديمة علقت بغبار الوقت، يبعن أشياء مسحوقة للمرضى في أكياس أو في علب فارغة لها رائحة الحناء وطعم اليانسون والحلبة، وكلها للمرضى، هؤلاء الذين فقدوا القدرة على مواجهة الحياة إلا بأرواح سوداء ويأس وقلوب معذبة، يقرؤون عليهم الآيات، وينفثون الهواء من صدورهن المتعافية على الصدور الممروضة التي تبكي آناء الليل وأطراف النهار.
وإذ تميل الشمس إلى الغروب يأتي إلى النافذة ليحضر المشهد الأخير، مسيرة الناس وهم يغادرون السوق مخلفين وراءهم أناشيد وأغنيات وصدى ضحكات وصخباً وغباراً، فلا يتبقى من ظلام الوقت سوى وجوه قليلة شاحبة يعلوها الغبار، بأصوات خافتة كأنها لأشباح تتحرك في ظلام، يتمّون عمليات بيع صغيرة في همس موح.
يقف أمام النافذة، أمام أثر غامض لقصص أسطورية يتركها هذا المكان كل يوم، وعندما يهبط الظلام، يصعد إلى سطح البيت المترب، ينتظر أن ينام وسط حارة مخنوقة الأنفاس، يحلم أن يعمل أو أن يعمر بيتاً، يسافر في سماوات بعيدة ولا ينام، يستلقي في فراش، وهو يشعر دائماً برطوبة الجو الخانق، وحرارته، يدخن ويتأمل السماء كأنها كهف أسود، أو يتأمل أمه وأخته اللتين تنامان قريباً منه، وفي الغالب يشعر بأخته التي لا تنام، يسمع حشرجات صدرها المريض.

نـوم

فحصه طبيب ثم حقنه بمصل وسأله بعد ذلك: بماذا تشعر الآن؟ وكان الطبيب يبتسم، أغمض الرجل المريض عينيه وقال بصوت له رائحة المـوت: أشعـر كما لو أني أريد أن أنام.
وكانت الحارة التي فقدت روحها وناسها تدور في رأسه مثل مسرحية متعددة الشخوص والأحداث.
أما شيخ المسجد فقد نزع ثياب الرجل وصب على جسده ماء الزعفران واستمر يقرأ الآيات حتى أصابه الإعياء، لأن الرجل المريض لم يكترث لشيء، وكل ما فعله وهو راقد أن ألقى نظرة على وجه الشيخ وكانت نظرة اندهاش، ثم مال بوجهه عنه ونام. حتى ارتفعت رائحة الحزن والغضب في الحارة وأخذت تفوح وتكسو الجدران بأثرها الرمادي الغامض، فقال الناس أشياء كثيرة عن الحياة وغضب الله، أما الشيخ فقد خرج من بيت المريض يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
وهكذا ظل الرجل نائماً وغير مكترث، وكان كل ما عليه أن يتقدم في العمر، أما أولئك البؤساء زوجته وأطفاله وأقاربه فقد اسلموا أنفسهم الى بكاء صامت، لان الشيء الذي لم يحدث من قبل، وما لم يكن محتمل الحدوث، صار يجري الآن أمامهم مثيراً في أنفسهم أسئلة غامضة.

ظلمة صغيرة

كانت الطريق معتمةً، والحارة نصف مغمضة، تسير في غير اتجاه مثل سفينة ثملة، وأنا أراكِ أحياناً تقفين هناك خلف الباب دائماً، بعيدة عن العيون، أراكِ من البعد شاهقة مثل نخلة، تبسطين وجهك البارع وكامل جسدك على ظهر غيمة طائرة تلف البلاد، أو تطل من علو يليق بسموها على حارة تشبه طفلة ضائعة، تنقلب إلى ممرات صغيرة ومتعرجة في الليل الغامض، لتمتلئ بآثار ركض لحيوانات نابحة ومخلفات منازل وسواد وصمت، وفي الصباح ترين حبات الضوء وتستمعين لأول العصافير.
لقد ضغطت أظافر الحارة على أرواحنا، وضغطت كفان ناعمتان على وجنتين صحراويتين فتفجر الرأس ماء وأعشاباً ونخلاً وذكريات ولهواً ودوداً صغيراً، وما زلت أراك تقفين هناك بعيدة عن العيون، عندما التقينا وتحدثنا وقلتُ لكِ إنك لست المرأة الوحيدة في هذا العالم التي تبكي كثيراً وتنام قليلاً. لست المرأة الوحيدة الجميلة التي لا تمشط شعرها ولا تقلم أظافرها ولا تستمع إلى الموسيقى.
الموظفون المعطرون يخرجون ليروا أنفسهم أو ليرى بعضهم البعض، يمشطون شعر رؤوسهم ويقلمون أظافرهم. يخرجون فرحين بأنفسهم وبأوقاتهم وبتاريخهم، ونحن نبحث في أدغال الوقت عن ظلمة صغيرة تمنح القدرة على النوم. نبحث من أول النهار حتى الانهيار اليومي المعتاد والسفر والخوف الغامض، وأنا ما زلت أراك هناك بعيدة خلف كل باب. أقول لك والقلب مضيء مثل شمعة: افتحي الباب. أفتح الباب ولا أجدك، أزيح غطاء اللوحـة، وإذا … مرآة مليئة بوجوه النساء.

بيوت من تراب

مهموم بنفسك والوقت والناس والحياة، وطابور من الأطفال ذوي القامات القصيرة جداً والأجساد النحيلة كقردة جميلة. مهموم بأبيك الذي في الشوارع مثل طير منتوف الريش، يركض بكل ما يستطيع من أحلام قديمة. مهموم بتاريخك منذ الأزل، بالبحر الذي لم تره. وبامرأة تراها كثيراً في ساعات نومك الطويلة، توقظك في نهايات الليالي، تتلو على رأسك سور الحلم والفرح والتحليق، فتستعيذ بالله من شر فتنتها، ومن شر بكائها العذب على صدرك المسترخي حد الموت. مرعوب من الوقت، منذ أحنيت رأسك وكنت ترى طفلاً صغيراً مقموعاً يريد أن يستيقظ من سبات طويل. هذا الطفل تراه جيداً يركض في الشوارع والحارات، ويكتب على الجدران أسماء الأصدقاء. يبني بيوتاً من تراب يركض في كل حارات المدينة، ويسهر الليالي الطويلة يدخن ويشرب مضمخاً برائحة الوقت اللذيذ والرقص والنساء. وعندما يستوي لينام، تقبض عليه بيديك الاثنتين، تحدق في وجهه جيداً، وعينيه المشاكستين، تتحسس أظافر يديه، إنها تقتلك، توقظك في الليل من أجل أن تمارس عليك طقوسها فتثور، وفي النهار تحني رأسك للأشياء.
* كاتب سعودي