حتى سويسرا، رائدة السرية المصرفية، تعهدت بمكافحة التهرب الضريبي وبأنها ستكون مستعدة لتطبيق الاتفاقيات التي وقّعت في ألمانيا قبل أشهر قليلة، اعتباراً من عام 2018.أما "سويسرا الشرق"، لبنان، فلم يعتبر نفسه معنياً بالمشاركة في هذا المؤتمر حول الشفافية وتبادل المعلومات، الذي شاركت فيه 123 دولة ومنظمة دولية، وكأن السرية المصرفية لا تعنيه أو لاعتقاد البعض بأن الأسلوب اللبناني بإبقاء المقررات حبراً على ورق قد يصبح موضة عالمية!

السابع عالمياً

بعيداً عن كتاب غينيس للأرقام القياسية الذي قد نتصدر فيه الترتيب بأكبر صحن حمص وجاط تبولة... يحّل لبنان في المرتبة السابعة عالمياً على مؤشر السرية المالية – 2013 الذي تعدّه شبكة العدالة الضريبية (TJN) كل عامين.
فوفقاً لهذا المؤشر، يعدّ لبنان جنّة ضريبية، وواحداً من "البلدان الأساسية التي تلعب دوراً مهماً في رعاية ثروات خاصة هاربة من الضرائب كلياً أو من معدلاتها المرتفعة".
وتستند شبكة العدالة الضريبية في إعداد مؤشرها الى قاعدة بيانات هائلة، تندرج في 15 مؤشراً ثانوياً، والهدف قياس مدى استجابة هذا البلد أو ذاك لمعايير الشفافية التي يجب أن تحكم العمليات المالية. ومن بين هذه المؤشرات الثانوية تبرز: السرية المصرفية، ملكية المؤسسات، فاعلية الإدارات الضريبية، تشجيع التهرب الضريبي، مكافحة تبييض الأموال، الالتزام بالمعايير الدولية للشفافية... ويظهر لبنان في جميع هذه المؤشرات وضعاً مزرياً جداً ويساعد على إخفاء المال ومصادره.

النوم في العسل

قد نجد مبررات أو أسباباً تخفيفية تبرر عدم مشاركتنا في مؤتمر حول الشفافية بحجم المؤتمر الذي عقد في برلين، إما أن لا يكون العديد من الخبراء الاقتصاديين والقانونيين في لبنان على دراية بانعقاد هذا المؤتمر من الأصل وبوجود هكذا اتفاقية أساساً تجمع هذا العدد الكبير من الدول، أو أن تكون معلوماتهم ناقصة في هذا السياق، فهو ما لا يمكن تبريره.
اعتمد لبنان السرية المصرفية بموجب قانون صادر في 13 أيلول عام 1956. وكان لاعتماد هذا القانون في منتصف العقد الخامس من القرن المنصرم أثر إيجابي كبير في جذب رؤوس الأموال والودائع، في ظل الاضطرابات الأمنية والانقلابات العسكرية والصراعات الأيديولوجية والفكرية التي شهدتها المنطقة في ذلك الحين، ما أمّن استقراراً اقتصادياً للبنان ترافق مع النهضة العمرانية وتطور قطاع الخدمات. يشار الى أن سرية المعاملات المصرفية كانت موجودة في لبنان قبل صدور هذا القانون، لكنها كانت سرية محدودة مبنية على المبادئ القانونية العامة، وعلى العادات المتبعة في المصارف التي كانت تعتبر نفسها أمينة على كتمان العمليات التي تقوم بها.
ما يميز قانون سرية المصارف في لبنان، هو كون السرية التي يفرضها على المعاملات المصرفية مطلقة وشاملة حيال كل سلطة إدارية، عسكرية وقضائية.
والسرية المصرفية المتبعة في لبنان والتي تقضي بحماية عميل المصرف دون إطلاع الغير على حساباته وعملياته المصرفية بدون وجه حق، تعتبر أكثر تشدداً مما هي عليه في بلدان عدة اشتهرت بسريتها المصرفية كسويسرا واللوكسمبورغ.
سرية مقيدة قانوناً
لا يجوز كشف السر المصرفي في مواجهة الجهات الخاصة أو السلطات العامة، سواء كانت قضائية، إدارية أو مالية إلا في حالات معينة وردت في القانون اللبناني أو في قوانين واتفاقات دولية.
فبموجب قانون عام 1956 تستثنى بعض الأحوال من موجب الاحتفاظ بالسرية وهي:
1ــــ إفلاس العميل. ففي هذه الحال، يجب على المصرف أن يدلي بكل المعلومات المتعلقة بحساب عميله الى وكيل التفليسة وإلى القاضي المشرف والمحكمة الناظرة بقضية الإفلاس.
2ــــ في حال نشوء دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وعملائها.
3ــــ في حال تنازل العميل أو ورثته أو الموصى لهم عن موجب الاحتفاظ بسرية معاملاتهم، ويجب أن يكون التنازل خطياً.
4ــــ في حال تبادل المعلومات بين المصارف عن حسابات الزبائن المدينة.
5ــــ يستثنى من أحكام قانون سرية المصارف، مصرف التسليف الزراعي والصناعي والعقاري.
6ــــ وجود دعاوى تتعلق بجريمة الكسب غير المشروع.
أما القانون رقم 2 تاريخ 1967/1/16 المتعلق بإخضاع المصارف التي تتوقف عن الدفع لأسباب خاصة، فيقضي وفق المادة 15 المعطوفة على المادة 13 برفع السرية المصرفية في حال توقف المصرف عن الدفع عن حسابات أعضاء مجلس الإدارة، والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات.

تبييض الأموال

وفي إطار جهود لبنان لمكافحة تبييض الأموال، والتزاماً منه بالاتفاقيات والمواثيق الدولية، فإنه في حال الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها، ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا وذلك وفقاً لنص الفقرة الثانية من البند الرابع من المادة السادسة من القانون رقم 2001/318 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال.

من المستبعد أن يبقى
لبنان بمنأى عن آثار الاتفاقية التي وقّعت في برلين

أما من حيث القوانين غير اللبنانية التي تحدّ من مفهوم السرية المصرفية، فيبرز قانون "فاتكا" الأميركي الذي وضع لمكافحة التهرب الضريبي والذي يفرض على المصارف في كل أنحاء العالم أن تبلغ وزارة الخزانة الأميركية مباشرةً بكشوف حسابات عملائها من حملة الجنسية الأميركية أو الحائزين "الغرين كارد" أو حتى الذين يشك المصرف في أنهم من المقيمين في الولايات المتحدة.
وفي ما يتعلق بالاتفاقية التي وقّعت في برلين، والتي ستؤدي بشكل شامل ودائم الى تبادل البيانات الخاصة بحسابات الأجانب في بنوك هذه الدول مع بلدان المنشأ لجعل عملية التهرب من الضرائب أكثر صعوبة بحلول عامي 2017 - 2018، فمن المستبعد أن يبقى لبنان بمنأى عن آثارها حتى لو لم يكن مشاركاً في المؤتمر، وبالتالي لم يوقع على الاتفاقية نظراً إلى العدد الكبير من الدول التي وقّعت عليها، فالتخلف عن احترام هذه الاتفاقية أو الانضمام إليها قد يزيدان من سمعة لبنان سوءاً في مجال الشفافية المالية والتهرب الضريبي.

الانعكاسات لبنانياً

على الرغم من عدم اطلاعهم على مضمون الاتفاقية أو حتى علمهم بها وبعدد الدول الموقّعة عليها، إلا أن وزير المال السابق الدكتور جورج قرم، ومدير مركز الدراسات الاقتصادية في مجموعة بنك بيبلوس نسيب غبريل والخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان أجمعوا على أنه بالرغم من الضغط الذي تتعرض له السرية المصرفية في ظل مكافحة الإرهاب والتفلت الضريبي وقانون "فاتكا"... فلا خوف على القطاع المصرفي في لبنان نظراً إلى أن هذا القطاع لا يرتكز فقط على السرية المصرفية، لا بل إن هذا القطاع واجه مطبات كبيرة في ظل الأزمات المالية والاقتصادية التي عصفت بالعالم وبقي صامداً بفضل أدائه والرقابة التي تقوم بها لجنة الرقابة المالية. وقد لفت قرم الى العامل السياسي في مجال السرية المصرفية بحيث يتم الضغط على دول ومصارف ومؤسسات معينة، فيما يتم تجاهل أخرى وذلك وفقاً لمصالح الدول.
في النهاية، وعلى الرغم من أن السرية المصرفية لم تندثر نهائياً ولا تزال صامدة في لبنان وفي عدد من الدول حول العالم، إلا أن من المؤكد أن هذه السرية لم تعد سرية الى حد كبير.




دول والتزامات

هذه هي الدول التي التزمت بتبادل الحسابات الأجنبية الخاصة بالأفراد اعتباراً من عام 2017:
أنجيا، الأرجنتين، باربادوس، بلجيكا، برمودا، الجزر العذراء البريطانية، جزر كايمان، شيلي، كولومبيا، كرواتيا، كوراشاو، قبرص، تشيكيا، الدانمارك، الدومينيكان، استونيا، فنلندا، فرنسا، المانيا، جبل طارق، اليونان، غيرنسي، المجر، ايسلندا، الهند، ايرلندا، جزيرة ماين، ايطاليا، جيرسي، كوريا الجنوبية، لاتفيا، ليشتنشتاين، ليتوانيا، لوكسمبورغ، مالطا، موريتشيوس، المكسيك، مونتسيرات، نيو، النروج، هولندا، بولندا، البرتغال، رومانيا، سان مارينو، السايشيل، سلوفاكيا، سلوفينيا، جنوب أفريقيا، اسبانيا، السويد، ترينيداد وتوباغو، جزر كايكوس، المملكة المتحدة والأوروغواي.
لائحة بالدول التي التزمت بتبادل الحسابات الأجنبية الخاصة بالأفراد اعتباراً من عام 2018: اندورا، انتيغا وبربودا، أروبا، أستراليا، النمسا، الباهاماس، بليز، البرازيل، بروناي، كندا، الصين، كوستاريكا، غرينادا، هونغ كونغ، اندونيسيا، اسرائيل، اليابان، جزر مارشال، ماكاو، ماليزيا، موناكو، نيوزيلندا، قطر، روسيا، ساينت كيت ونيفيس، ساينت لوسيا، ساينت فينسنت وغرينادين، ساموا، المملكة العربية السعودية، سنغافورة، ساينت مارتين، سويسرا، تركيا والإمارات العربية المتحدة.