صعبةٌ وقوية هي الأفلام التي لا تحاول إطلاق الأحكام الجاهزة، ومنح المُشاهد فكرة الفيلم من أوّل دقيقة. بقدر ما تحاول أن ترسم للمُتفرج فكرة مختلفة لقصّة الفيلم من زاوية أخرى، لتُشكّل نظرَته الواعية لِمَا يُشاهده، ومن خلالها يَستنج فكرته هو، وهذا ما برَع فيه المُخرج الجزائري جعفر قاسم في فيلم «هيليوبوليس» الذي يُعرض حالياً في قاعات السينما الجزائرية.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
فالمُشاهد للفيلم يدرك حتماً أنه أمام عملٍ قوي، إذ أنّ جعفر قاسم قدّم للمشاهد مُتعة بصرية، وقصّة إشكالية تُعيد إحياء فترةٍ مُهمّة من تاريخ الجزائر، وهي أحداث الثامن من ماي 1945، لكنه في الفيلم لا يُعيد التاريخ كما نعرف، بل يُعيد قراءة الجزء المُعتّم من التاريخ الذي نجهله، فأحداث الثامن من ماي كانتِ الشُعلة الحقيقية لبداية التفكير في الثورة التحريرية ( 1954).

كما أنّ الفترة التي مرّ بها الشعب الجزائري والعالم كانت مفصلية (نهاية الحرب الثانية، وانتهاء الحكم النازي).
المُشاهد لـ «هيليوبوليس» يدرك تماماً أنّ القصّة لا تُجيب على أسئلة المشاهد بقدر ما تحاول أن تمنحه قدراً كبيراً من الوعي، وتَضعه في جلسة مساءلةٍ صريحة مع تلك الفترة. يَحضرنا في هذا الصدد قول أليخاندرو آمانابار: «أفلامي لا تقدم إجابات، بل تطرح الأسئلة»، بخاصة للجيل الحالي، الذي لا يَعي أحداث ما قبل الثورة بشكلٍ جيد، ولربما لم يقرأ عنها حتى، لكن أن يُشاهد فيلماً، فذلك أمرٌ مختلف ومُمتع في الوقت ذاته.
منحَ الفيلم المُشاهد صُوَراً حيّة كأنه عايَش الأحداث. وهنا تبرز قوّة الصُورة التي من خلالها يُمكن للمشاهد أن يتشرّب المعلومة بطريقة فنيّة، من دون أن يشعر. إذ برعَ جعفر قاسم في استنطاق الصورة، يقول ديفيد فينشر: «الإخراج هو كيفية تغذية المُشاهد بالمعلومات بطريقة تجعله لا يطيق الانتظار». طبعاً إن نحن تحدّثنا عن الصورة الجيدة، فحتماً يستوجب القول بأنّ الفيلم كان جيداً، فلا جودة سينمائية مع صورة سيئة، وهذه الفكرة تحديداً عبّر عنها ألفريد هيتشكوك بقوله: «الفيلم الجيد هو الذي إن حُذف شريط الصوت بالكامل، يظل المُشاهد مستمتعاً به». تمكّن جعفر قاسم من خلال قصة فيلم «هيليوبوليس» التي تدور أحداثها في قالمة، أن يروي في البداية إيمان القائد مقداد زناني (عزيز بوكروني) بفكرة الجزائر الفرنسية ولا يمكنها أن تكون غير ذلك، وأراد أن يورث هذا الفكر لابنيه محفوظ ونجمة.
تعود بنا شخصية «نجمة» بطلة الفيلم، التي مثّلت دورها الفنانة سهيلة معلم إلى رواية «نجمة» لكاتب ياسين. وطبعاً، لم يكن الاختيار جزافاً، فالرواية كُتبت باللغة الفرنسية، ولكنها أبداً لم تتخلّ عن هويتها ومقوماتها الجزائرية. إذن نجمة كاتب ياسين ونجمة «هيليوبوليس» كلاهما متمكستان بالهوية الجزائرية.
وعودة للابن محفوظ (مهدي رمضاني) الذي كان يخالفُ والده الرأي تماماً، إذ اكتشف أنهم سيبقون مواطنين درجة ثانية، ولا يمكن أن يتساووا والفرنسيين، فنجاحه في البكالوريا وفشله بالالتحاق بالمدرسة المتعدّدة التقنيات، الذي قُوبل بالرفض، جعله يصر على آرائه ويقتنع بها.
ومن هنا نرى الصِراع الحقيقي بين الأب الرافض، والابن الذي يغادر البيت باحثاً عن الحرية التي زادت من تأجُّجها نهاية الحرب العالمية الثانية، وهنا تحدث المجازر التي راح ضحيتها 45 ألف شهيد، فرغبة المعمرين في إبادة كلّ الجزائريين جعلتهم لا يدّخرون جهداً في قتلهم. ففي أحد المشاهد، يُلقى القبض على محفوظ وأصحابه والحكم عليهم بالإعدام لأنهم بنظر الفرنسيين مسُّوا أمن فرنسا، وكون الأب كان وفيّاً لفرنسا اعتقد أنه عندما يترجاهم بعدم قتل ابنه، سيمتثلون لأمره، لكن محاولاته باءتْ بالفشل ليموت محفوظ ويحيا بموته فكر الأب الذي يلخِّصه مشهد نهاية الفيلم.
فكرة الفيلم هي تنشيط ذاكرة الأجيال بالثورة الجزائرية وبالمجازر التي قامت بها فرنسا في حقّ الجزائريين، وكذلك تصحيح الكثير من المغالطات حول الشخصية الجزائرية، فمهما حدث سيكون الانتماء للهوية الجزائرية أهم ما جمع ويجمع الجزائريين.
المُشاهد للفيلم يدرك تمام الإدراك أنه لم يصنع الصورة فقط، بل حاول أن يُحيي تلك الصورة ويحوّلها من الخيال إلى الحقيقة في ذهن المُشاهد، من خلال الإمكانيّات الكبيرة التي صور بها الفيلم، إذ أثّث جيداً بما يتلاءم وسنوات الأربعينيّات في الجزائر، ومن هنا تبرز براعة جعفر قاسم الذي أثبت أن المخرج الحقيقي، هو الذي يمكن أن ينتقل من تجربة إلى أخرى مختلفة عنها بأفكار ناجحة وبرؤية جديدة..
يقول رون هاوارد: «أكثر ما يميّز مهنة الإخراج أنها مهنة بلا نهاية، كل قصة جديدة لها مشاكلها وتحدياتها الجديدة». سيظل جعفر قاسم أيقونة إخراج جزائرية، ستصنع لها قريباً مكانها الذي تستحق في السينما العالمية.
بفيلم «هيليوبوليس»، لن يعود الشهداء مجدداً، ولكن ستُكرّر مُساءلة التاريخ الفرنسي البشع في الجزائر دائماً وأبداً إلى أن تعترف فرنسا بكل الجرائم التي ارتكبتها بحق الجزائريين.
إذن «هيليوبوليس» هو جلسة مكاشفة للذاكرة من وجهة نظر التاريخ غير المَحكي، ومن وجهة نظر غير التي اعتدنا رؤيتها في الأفلام.