يشار إلى يوم 6 حزيران 1944، على أنه اليوم الأطول في التاريخ. ففي فجره، كانت قوات «الحلفاء» تنزل على شاطئ النورماندي تنفيذاً لعملية أُطلق عليها اسم «أوفرلورد»، وجرى التخطيط لها على مدى عام سابق لذلك اليوم. والفعل من حيث النتيجة، كان قد مثّل أكبر إنزال بحري شهده التاريخ العسكري، وفيه سينجح «الحلفاء» في إحداث تحوّل كبير في مسار الحرب العالمية الثانية، ثم في إحداث تحوّل وازن من النوع الذي ما زالت تراسيمه ملموسة حتى الآن، رغم مرور ثمانية عقود عليه. وهج ذلك اليوم ظلّ حاضراً في كل المحطات والمفارق التي راحت تتكاثر بعد 9 أيار 1945، اليوم الذي رمَز إلى الانتصار على النازية، وبدء ارتسام عالم جديد تروق ملامحه للذين حقّقوا ذلك النصر. ولعل «إنزال النورماندي» ظلّ المحطة التي يرتكز إليها هؤلاء في الرسم المذكور، انطلاقاً من حقيقة مفادها أن الأعمال الكبيرة تظلّ بحاجة دوماً إلى بعض من جموح الخيال، بعيداً عن حسابات الخرائط وموازين القوى، لكي تدخل حيز الأسطورة الذي يمنحها حق الانغراس في الذات والذهنية الجمعيين. والفعل يزداد تأثيره عندما تصبح هاتان الأخيرتان، بطبعتهما الغربية، سائدتين على المستوى العالمي، حتى ليتماهى الغرب والعالم، في وحدة تكاد عراها لا تنفصم.هنا، في الشرق الأوسط، يومان معادلان لليوم الذي اتُفق على توصيفه بالأطول في التاريخ، أولهما 23 تموز 1798 الذي سُجّل فيه دخول نابليون بونابرت إلى القاهرة، وإعلانه نهاية صلاحية المظلّة المملوكية - العثمانية التي استظلّت بها المنطقة على مدى ما يقرب من أربعة قرون، لعبت فيها تلك المظلّة دور «الدرع» الواقي في صدّ الغزوات الغربية التي ما انفكت تتوالى على المنطقة منذ مطلع الألفية الثانية. ورغم أن حملة نابليون كانت قد سجّلت، في النهاية، هزيمة محقّقة بالمعنى العسكري، إلا أنها أزاحت الستار عن وهن التركيبة التي تقوم عليها المنطقة، وضعف الترابط ما بين «القواعد»، الممثّلة بالنسيج العربي، وبين «القمة»، الممثّلة بنظام الحماية المملوكي - العثماني. وعليه، كانت الخلاصة أن أي نظام دفاعي لا يقوم على تركيبة قوامها سكان المنطقة، قاعدة وقمة، هو نظام منهار، بهذه الغزوة أو بتلك. وثاني اليومين الطويلين، كان 2 تشرين الثاني 1917، الذي أعطى فيه آرثر بلفور، وزير الخارجية البريطاني، وعداً باسم حكومة «جلالة الملكة» يقضي باعتراف هذه الأخيرة بـ«حق اليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين». ولم تكن مصادفة إطلاقاً أن يصدر ذلك «الوعد» قبل خمسة أيام من سقوط القدس، التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بيد البريطانيين في 7 تشرين ثاني من العام المذكور، الأمر الذي رمز، إضافة إلى ما رمز إليه اليوم السالف الذكر، إلى أن «المظلّة» لم تصبح فاقدة الصلاحية فحسب، بل باتت أيضاً متهتّكة النسيج حتى لم تعد تصلح لأداء المهمة التي وُجدت من أجلها .
«الطوفان» سيكون كما البوصلة للأحداث التي ستشهدها المنطقة لمدة قرن من الزمان على الأقل


يمكن القول إن يوم الشرق الأوسط الطويل الأول ترك آثاره على المنطقة لمدة لا تقلّ عن قرنين من الزمن، من حيث تأكيده فقدان الأنظمة القائمة في المنطقة مناعتها، ومن حيث أنه أبرزَ مسعى غربياً يرمي إلى شطب خمسة قرون من التراجع أمام العثمانيين، إذ ستلعب تلك الثنائية الدور الأبرز في رسم ملامح الاضطراب المقبل. كما يمكن القول إن يوم الشرق الأوسط الطويل الثاني ترك آثاره على المنطقة لمدة تزيد على القرن، بل ولم تنقص مفاعيله حتى الآن، من حيث أنه رمى إلى التأسيس لقوة إقليمية ضاربة قادرة أولاً على فرض الإرادة الغربية على المنطقة، وثانياً على أن تكون «جواز» عبور لا بديل منه لدول المنطقة إلى «القلب» الغربي، وفقاً لما تكشّف في مراحل المشروع اللاحقة.
فجر 7 أكتوبر 2023، كانت إسرائيل على موعد مع أطول أيامها، وأخطر ما فيه أن شمسه لم تغب، ولم تبرح سماء فلسطين رغم مرور ثمانية أشهر على بزوغها. ومن المؤكد أن هذا التاريخ سيرسو في الذواكر على أنه «فتح» كبير، ليس بالمعنيين العسكري والسياسي فحسب، بل بالمعنى الفلسفي الفكري أيضاً، من حيث روح الجسارة التي أبداها الفلسطينيون، رغم عتيّ الأدوات المستخدمة لمواتها، تلك الروح التي أصبحت اليوم ملهمة للبشر والتاريخ على حد سواء. والشاهد هو أن مأثرتها لم تتجسّد في قيمة «الاستشهاد» التي ظهرت بأقوى الصور، على عظمتها، بل بالصلابة التي راحت تشتدّ كلما زاد عتي الأدوات. وهذه الأخيرة، استطاعت، من حيث النتيجة، هزّ أركان الفكرة الصهيونية وتحطيم أساطيرها التي صدعت بها رؤوس العالم، ثم زعزعت عرش الثقافة والقوة والطغيان الغربي الذي تلاحم مع تلك الفكرة بدرجة لم يعد يُعرف معها: من يدافع عن من؟ ومن هو الذي يستخدم من كـ«عبّارة»، لوصوله إلى برّ الأمان؟
كانت الحرب في غزة أشد وطأة وأعظم تأثيراً في بنيان العالم، بحكوماته وشارعه وتياراته، من حرب كبرى كالحرب الأوكرانية التي هدّدت التوازنات القائمة في أوروبا، كما وضعت الهيمنة الغربية على العالم على محك لم تثبت نجاحها فيه إلى الآن. وإذا كان من المبكر التنبؤ بالمآلات التي سيفضي إليها فجر «الطوفان» لاحقاً، فإن من المؤكد أن ثمة حقيقتين باتتا الآن راسختين كرسوخ شمسه، أولاهما أنه أزاح الأسطورة اليهودية التي تقول إن الشمس احتبست عن المغيب ليوشع بن نون حتى يواصل قتاله فينتصر، وتلك لوحدها تعني أن «الأسطرة» فقدت قدرتها على إذكاء النفس الجمعية بما هو لازم لها لممارسة القتال، وثانيهما أنه سيكون كما البوصلة للأحداث التي ستشهدها المنطقة لمدة قرن من الزمان على الأقل.