مرت، أخيراً، الذكرى السادسة والسبعون لنكبة الأمة في فلسطين وقيام الكيان الصهيوني الاستيطاني الإحلالي الإمبريالي. وكما في كل عام، لا تحل هذه الذكرى، في العقدين الأخيرين، من دون أن ينشغل سياسيون ومؤرّخون ومفكرون وإستراتيجيون، داخل الكيان وخارجه، بالإجابة عن الأسئلة حول مصيره. ومن بين هذه الأسئلة، الآتي: ما هو مستقبل هذا الكيان؟ هل يشهد ذكرى تأسيسه المئة؟ هل يكمل عامه الثمانين قبل زواله كما زالت كيانات (يهودية) تاريخية سابقة؟ كيف تُسرّع الانشقاقات الداخلية بين المتدينين والعلمانيين نهايته؟ لماذا «تخلى رب موسى وهارون عن شعبه»؟!... إلخ.
مؤشرات النهاية
الكيان هو المكان الوحيد في العالم الذي تُطرح فيه الأسئلة والشكوك والهواجس نفسها، حول استمرار وجوده، على هذا النحو، كل عام. ولم تكُن ذكرى النكبة وقيام الكيان العام الحالي، استثناءً من ذلك، بل أصبحت الأسئلة المطروحة أكثر إلحاحاً وراهنية وجدية من أي وقت مضى، بعد اندلاع ملحمة «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023، وما رافقها من تحولات عميقة تمس بأمن الكيان ومناعته وتماسكه وسرديته وشرعية وجوده، وقدرته على الردع، ودوره الوظيفي في خدمة الإمبريالية العالمية؛ فهو المشروع الاستيطاني الوحيد والأخير القائم حالياً، لكنه يسير نحو مآلاته الحتمية من اضمحلال وتراجع وانحطاط إستراتيجي في سياق خدمة الهيمنة الغربية، وتتعرض أسسه ومرتكزاته للاهتزاز والتآكل بل والانهيار.
وتمثل الصهيونية العنصرية الاقتلاعية الإحلالية أيديولوجية هذا الكيان القائمة على ثلاثة عناصر: احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب، واستبدال ثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ. وكل عنصر من هذه العناصر مشروع إبادة قائمة بذاته؛ فالصهيونية هي التجلي الإمبريالي لـ«علمانية» فاشية شاملة علمنت اليهودية، وسخّرتها لخدمة الإمبريالية الغربية. ومن بين مؤشرات دخول مشروعات الاستيطان طور «النهاية»، تصاعد مستويات العنف والتدمير الشامل لأهل البلاد الأصليين، والذي وصل إلى حد الإبادة الجماعية كما يحدث الآن في قطاع غزة والضفة الغربية. فقد هبط الكيان الاستيطاني إلى دَرَك الهمجية والعدمية والعزلة الدولية وفقدان الشرعية، وصولاً إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، وإصدار أوامر دولية باعتقال قادته المتورطين في جرائم الحرب والإبادة.

مثلث الخطر والتهديد والابتزاز!
في ديباجات ومبررات المشروع الاستيطاني الصهيوني، بُعدٌ معلوم قليلاً ما يشار إليه في الغرب، لكنه احتل أخيراً وبقوة دائرة الاهتمام لتبرير الدعم الغربي المفرط والأعمى لإسرائيل، خاصة بعد عملية «طوفان الأقصى». فتواترت في دوائر السياسة والإعلام والفكر في أميركا والغرب عبارة أنه «لو لم تكن إسرائيل موجودة لتحتّم إيجادها»، وأنّ عدم وجودها يتطلب «نشر عشرات السفن الحربية وحاملات الطائرات والقواعد العسكرية في المنطقة العربية»، من دون أدنى تساؤل عن مبررات ذلك ومشروعيته! هنا، يأتي الدور «الوظيفي» للمشروع الاستيطاني الصهيوني في تدوير منظومة السيطرة الإمبريالية واستدامة الهيمنة الغربية على المشرق العربي ضمن مثلث جيو - إستراتيجي مترابط بنيوياً، تؤدي كل حلقة من حلقاته إلى الأخرى ضمن دائرة تراكمية متواصلة وذاتية التغذية، بعد انتزاع أسباب المقاومة من هذا المشرق، وهي كالآتي:
1. الخطر: إقامة قوة عسكرية إستراتيجية إسرائيلية متفوّقة تتجاوز قوة دول المنطقة مجتمعة، وفقاً لما تعلنه أميركا وتهدف إليه دائماً في سياق تبرير مساعداتها العسكرية وصفقات السلاح الباهظة وغير المبررة لإسرائيل.
2. التهديد: قيام هذه القوة العسكرية المتفوّقة بتهديد دول المنطقة اختراقاً وعدواناً وتوسعاً واحتلالاً وتقويضاً واستنزافاً، مراراً وتكراراً.
3. الابتزاز: لجوء دول المنطقة المهددة من الكيان الصهيوني إلى قوى الهيمنة الإمبريالية، بريطانيا سابقاً وأميركا حالياً، طلباً لحمايتها من التهديد الإسرائيلي، بما يرسّخ ويعظّم ويُكرّس السيطرة الإمبريالية، ويُعيد دول المنطقة إلى ما دون وضعها السابق كمحميات!

جيش يمتلك دولة!
يشيع في دوائر الإعلام والفكر الصهيوني والغربي القول بأن الكيان الصهيوني يختلف عن كل الدول «الطبيعية» التي تمتلك جيوشاً؛ فـ«إسرائيل هي جيش يمتلك دولة»! وفي الواقع، هي تشكيل متعدد المستويات والاختصاصات لعصابات السطو المسلّح، هكذا بدأت وتستمر، وهذا ما يفسر الصدمة العميقة التي أصابت الكيان ومؤسساته ونخبه ومجتمعه، ثم جنون رد فعله الكارثي، إزاء الإخفاقات العسكرية والأمنية والسياسية التي أسفرت عنها عملية «طوفان الأقصى». إذ اجتاح المقاومون، عبر هذه العملية، قواعد الجيش والاستخبارات الصهيونية، ودمروا «فرقة غزة» المخصّصة للدفاع عن جبهة الكيان الجنوبية، واقتحموا معسكرات ومستوطنات وبلدات غلاف غزة، واقتادوا عشرات الأسرى من ضباط الاحتلال وجنوده ومستوطنيه بعد مقتل مئات منهم، متخطّين أسواره الحديدية والإلكترونية وقدرات التجسّس والرصد والتحوّط الفائقة، ما يشير إلى انحطاط إستراتيجي وسقوط قدرة الردع. وهكذا، يمر المشروع الصهيوني بمعظم مراحل قيام وتطوّر وسقوط مشروعات الاستيطان الأوروبية منذ الحملات الصليبية في القرون الوسطى وحتى التاريخ المعاصر، وتحديداً تلك المشروعات التي فشلت في إبادة الشعوب الأصلية حضارياً وثقافياً وأخلاقياً واجتماعياً وسياسياً، كما وقع - بكل أسف - للشعوب الأصلية في الأميركتين وأستراليا ونيوزيلندا وهاواي وجزر في الكاريبي وبولينيزيا والمحيطين الهادئ والهندي.
نظام الهيمنة الغربية على العالم لم يعد مستقراً كما في سيرته الأولى، لذا لم تعد للكيان الاستيطاني الأولوية نفسها


مآلات المشروعات الاستيطانية
تتشابه سمات ومآلات وآليات عمل الكيان الصهيوني مع مشروعات الاستيطان الأخرى، وتتشابه، أيضاً، في تصوّرها عن أصحاب الأرض الأصليين وطرائق التعامل معهم. لكن المشروع الصهيوني فشل في القضاء على شعب فلسطين وانتماءاته العربية والإسلامية، حتى أصبح هذا الكيان المشروع الاستيطاني الأخير، المتجه نحو العزلة والانحطاط الإستراتيجي، والذي ينتظر التفكيك في ضوء صمود واستعصاء شعب فلسطين على الاقتلاع والإبادة، ونهوض الأمة، وتراجع الهيمنة الإمبريالية الغربية، وتآكل مرتكزاتها. والجدير ذكره، هنا، أنه لو كان الكيان عقلانياً لاكتفى بحدوده يوم 4 حزيران 1967 والتي كانت أكثر حدود آمنة وقابلة للاستدامة في تاريخه المشؤوم. لكنه يفتقد العقلانية منذ بدايته، لأن الجريمة غير عقلانية أصلاً! وحمل في باطنه بذور سقوطه وعوامل انهياره؛ فهو بحكم التاريخ والجغرافيا، متورّط في صراع مصيري وجودي «صفري» مع أمة متجذّرة تمتد قروناً عبر العالم حضارة وقيماً وهدياً، بل إن وجوده - بحد ذاته - يستنهض هذه الأمة نحو مكانتها الجديرة بها. إذ انتقل مركز ثقل المشروع الصهيوني وقيادته من المؤسسة الصهيونية العلمانية أوروبية المنشأ والقوام والمزاج والمرجعية، إلى تيار ديني استيطاني تلمودي لا يتّسق مع المرجعية الإمبريالية الاستيطانية الغربية، علماً أن ذلك الانتقال الجوهري سيؤدي إلى عزله ليس فقط عن مجتمعات الغرب التقليدية، بل عن المجتمعات اليهودية المزدهرة ضمن إطار وقيم وفضاء الحداثة الغربية في أوروبا والولايات المتحدة. لا بل وأحدث الانتقال المذكور شروخاً بالغة وانقسامات عميقة داخل المجتمع الاستيطاني ذاته، بما يهدد بحرب أهلية، وفقاً لما يحذر منه عتاة الصهاينة من جنرالات عسكريين وقادة مؤسسات أمنية سابقين.

من سيُطفئ مصابيح المطار؟
أدت «طوفان الأقصى» وتداعياتها إلى تفاقم تكلفة المشروع الصهيوني الباهظة أصلاً على منشئيه ورعاته؛ إذ باتت تكلفته تفوق الفائدة منه في حسابات الإمبريالية والترشيد العلماني. ورغم اندفاع الغرب الجنوني نحو إنقاذ الكيان، إلا أن توازن القوى، وتوزيع الكتل عالمياً، وطبيعة المنافسة والتحديات المستجدة في الساحة الدولية، كلها عوامل غيرت العالم كثيراً. فنظام الهيمنة الغربية على العالم، والذي أنتج هذا الكيان الصهيوني، لم يعد قائماً أو مستقراً كما في سيرته الأولى، ولذا لم يعد له نفس الوزن والأهمية والأولوية.
نستحضر، هنا، قول الزعيم الفرنسي الجنرال شارل ديغول بعد عدوان 1967: «إسرائيل عضو غريب في جسم يرفضه». لذا، يظل التحدي الأكبر لهذا الكيان، عدم قبول وجوده في محيطه العربي، خاصة في وعي شعب فلسطين والأمة، فيما يبقى العنف المتصاعد والإبادة سبيلاً وحيداً لاستمراره، ومأزقه الأول كذلك. ويلفت المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، صاحب موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»، بدوره، إلى قول بيني موريس، أحد «المؤرخين الإسرائيليين الجدد»: إن نهاية إسرائيل حُسِمت لحظة إعلانها عندما فشلت الحركة الصهيونية بقيادة بن غوريون في اقتلاع شعب فلسطين أو القضاء عليه. ويستحضر المسيري أقوال كتّاب ومفكرين إسرائيليين حول مصير إسرائيل، متأملاً دلالات النهاية؛ فكتب أحدهم: «إنّ أباه رحل بعد أن ترك له دولة، أما هو فعندما يرحل سيترك لابنه علامة استفهام!»، بينما كتب غيره: «سيكون على آخر المغادرين من مطار بن غوريون أن يطفئ مصابيح المطار!».
وعندما عُرض على أعضاء «الكنيست» فيلم توثيقي عن تفاصل حدث 7 تشرين الأول، أغمي على بعضهم من هول الصدمة، وعولجوا من آثارها. وفي لحظة صدق نادرة، قال يائير لابيد، زعيم المعارضة في «الكنيست»: «إسرائيل ليست دولة أخلاقية وليست قوة إقليمية ولن تنتصر في الحرب!».

* باحث في التاريخ والاجتماع