أستميحكم عذراً، هذا ما حدث... طال غياب بدر الذي خرج من منزله في تل الهوى باحثاً عن الخبز، وبدأ القلق يتسرب إلى قلب والديه، فهو ابنهما الوحيد. مرّت الساعات متعاقبة بزمنها الطويل القاتل بين أصوات الانفجارات وأزيز الرصاص الذي لا يتوقف.
كاد قلب أم بدر ينفطر من شدة قلقها على ابنها الذي خرج منذ ثلاث ساعات ولم يعد. أصبحت أشبه ببندول الساعة، تتحرك يَمنةً ويَسرةً، لا تنفك تفرك يديها إحداهما بالأخرى، فالدنيا حرب والغياب نذير شؤم والخروج من المنزل خطر، وهي لم تكن منذ البداية موافقة على خروجه.
صاحت في وجه زوجها: لم أعد قادرة على الانتظار أكثر، سأخرج للبحث عن ولدي، لقد هدأ إطلاق النار قليلاً. أجابها زوجها: كيف ستخرجين؟ هل جننتِ؟ ألم تسمعي أصوات الطلقات لا تتوقف؟ يبدو أن هناك اشتباكات عنيفة في الخارج، انتظري حتى تهدأ الأمور تماماً.
لن أنتظر... ومتى توقف القصف والطلقات والانفجارات!
انتظرني في المنزل، لن أغيب طويلاً.. سأبحث في محيط البيت.
خرجت بخطى سريعة تتلفّت في كل الاتجاهات، الشوارع خالية وكأن منطقة تل الهوى قد تحولت إلى مدينة أشباح، وهي التي كانت قبل أشهر قليلة تضجّ بالحياة والحركة بوصفها من أرقى وأجمل مناطق قطاع غزة.
ظلت تسير وحيدة في الشوارع تتمنى أن ترى أي شخص لتسأله عن ولدها. تهرول في الطرقات، مرة في جهة الشمال، ومرة في جهة الجنوب، فلا تسمع سوى صوت نباح الكلاب الآتي من بعيد ولسان حالها يقول: كيف اختفى الناس بهذه السرعة؟ لقد ماتت المدينة. نعم، للمدينة روح، وحينما تخرج الروح تموت المُدن. والإنسان هو روح المدينة وحالَ مغادرته تموت المُدن.

ناصر الجعفري ــ «أم الشهيد» (كرتون، 2022).

قالت لنفسها: هل هذا وقت فلسفتك الفارغة؟ لا بد أن أذهب باتجاه أصوات الكلاب، فلا بد أنها تنبح على شيء ما، بشر ربما، أو حيوان، أي شيء أستأنس به. رغم خوفي الدائم من الكلاب، ولكن لا بد أن أذهب باتجاه الصوت علّي أجد ما يدل على حياة في المكان.
أخذت تتقدّم بخوف تُجَاهَ المكان، تحديداً بالقرب من جامعة الأقصى، وهناك شاهدت من بعيد ثلاث جثث ملقاة على الأرض والكلاب لا تتوقف عن نهشها... اقتربت قليلاً ثم صرخت بأعلى صوتها؛ صوت قد يكون أعلى من صوت الصواريخ، غطّى كل منطقة تل الهوى، حطّم الصمت المخيم على المكان...
— آآه يمه... آه يمه...
تحولت إلى كائن آخر متوحش أكثر من الكلاب المفترسة. حتى الكلاب ارتعبت وجفلت لبرهة من شدة الصوت والغضب والحزن والقهر. ركضت من دون وعي تجاه جثة ابنها الذي كانت الكلاب تنهش لحمه، حاولت سحبه بعيداً ولكن الكلاب هاجمتها... دافعت عن نفسها ثم ابتعدت قليلاً، بحثت في أرجاء المكان عن عصا، فوجدتها وحملتها استعداداً لخوض المعركة. خلعت منديلها وقطّعته نصفين وربطت أحدهما بالآخر ثم خلعت بنطالها من تحت العباءة وربطت البنطال بالمنديل وصنعت منهما حبلاً، وعادت لابنها متحدّية الكلاب مرة أُخرى، وظلت تهشّ بالعصا عليها مرة ومرة تربط قدم ابنها بالمنديل، ثم أخذت تسحبه بعيداً عن توحش الكلاب. كلب واحد ظل يلاحق الفريسة، استجمعت قوتها وهجمت عليه كلبؤة شرسة فخاف وذهب بعيداً، ظلت تسحب الجثة حتى أبعدتها عن الكلاب، وعادت تصرخ «آه يمه»، وارتمت عليه تحتضنه، ثم جرّته إلى المنزل الذي يبعد حوالي 1000 متر...
طوال الطريق، كانت تسحب بقايا الجثة والحبل ينخر كتفها، غير مصدّقة ما يحدث... هل هذا فعلاً ابني بدر؟ تنظر إليه... تعود لتحتضنه... تنادي عليه... تتوسل إليه أن ينهض، ثم تعاود المسير. مرّ شريط حياته أمام عينيها كأنها لحظة يوم مولده وصرخته الأُولى. كيف حبا على يديه أول مرة؟ خطواته الأُولى وكلمة ماما... فرحتها لذهابه أول يوم إلى الروضة، وتخرّجه في الجامعة، وحبيبته التي كان يكلمها بالسر. نظرت إليه متوسلةً: انهض يا بدر. أتعلم يا ولدي من أسماك بدر؟ كلا لست أنا، ولا حتى والدك، إنها الممرضة حينما ولدتك وألقت نظرة إلى وجهك قالت لي لقد أنجبتِ بدراً يا سيدتي، سبحان الخالق... حتى إنها دعت كل زميلاتها ليشاهدن جمالك ووقتها قلنا سوف نسميك بدر. لقد كنت أعتزم أن أزوّجك من حبيبتك، انهض يا ولدي، انهض. أريد أن أفرح بأولادك، ولكن إياك أن يناديني أحدهم بجدتي...
ضحكت ضحكة خفيفة ثم بدأ صوت يخترق رأسها بأغنية فريد الأطرش «الحياة حلوة بس نفهمها». نفضت الصوت بعيداً وسألت نفسها، ما هذا الجنون الذي حلّ برأسي، أجُر ابني مستشهداً وأُغني؟
صارت الدماء تسيل من كتفها من أثر إطباق الحبل المشدود لثقل الجثة، ومع ذلك لم تكن تشعر بشيء... استمرت بالمشي والشوارع لا تزال خالية وكأنها حواء في بداية الخلق وهي تجرّ ابنها هابيل الذي قتله أخوه قابيل. ولكن بدر قتلته إسرائيل. تذكّرت بدر حينما كان كل صباح ينهض مبتسماً مقبّلاً جبينها وتداعبه مبتسمة، قبّلني من خدي يا بدر، فيجيبها «هاي أحلي بوسة لأغلى أم».
عادت أغنية «الحياة حلوة» تقتحم فكرها وتزاحمها في مصيبتها، فطردتها بحزم وأخذت تنظر إليه وتصرخ: «آه يمه». اقتربت من منزلها بضع خطوات وعادت أنغام «الحياة حلوة» تسيطر على مخيلتها، صور بدر المتلاحقة وهي تضع له ساندويتشات المدرسة وتشتري له ملابس العيد، ويوم نجاحه بالثانوية العامة توزّع الحلوى على كل أهل الحي والأقارب، وعادت صورة الكلاب في رأسها تنهش قدميه وعادت الأغنية تتردّد في رأسها. صرخت بأعلى صوتها «آه يمه»...
ركض زوجها تجاه الباب، كانت جثة تجرّ جثة، شعرها مبعثر على وجهها، تغطيها الدماء، ملابسها ممزقة، عيناها ذابلتان. أفلتت الحبل من يدها من دون وعي وظلت تسير في الشارع تغني بإيقاع بطيء: «الحياة حلوة بس نفهمها نفهمها نفهمها».

* ممثل مسرحي / غزة