في روايته «رئيس الصدفة» (دار البيان العربي ــ بيروت)، يلعب محمد البندر لعبة خطيرة وممتعة في آن. يأخذك في مسار الترفيه والتوجيه معاً. يستحضر ابن المقفع بأمثاله الخرافية في «كليلة ودمنة» وما ترمي إليه من عبر ومغازٍ، ويأخذك إلى زكريا تامر و«نموره في اليوم العاشر». يكتب البندر بلغة الإعلامي الذي خبر السياسة والإعلام ودهاليز السياسيين والقضاة وأساليب الحكم واستحمار الجماهير، ويرى بعين الشاعر الذي يرى ما لا يراه سواه، فيستشرف مستقبل كلّ وطن أو شعب يترك لأراذله أن يتحكّموا بمصيره وهو واقف تحت حر الشمس يصفّق لهم ويهتف بملء حناجر غبائه: «بالروح بالدم نفديك يا...».

ولعل استخدام محمد البندر لتقنية المثل الخرافي بنسخه المعاصرة، ليس فقط للأسباب نفسها التي دفعت ابن المقفع في عصره إلى توسّل هذا النوع الأدبي خوفاً من بطش السلطة وسطوتها على كل ذي رأي، بل يشير الكاتب إلى أنّ الزمن العربي الحاضر ما زال هو الزمن العربي الماضي، زمن محمد البندر هو نفسه زمن ابن المقفع على مستوى القمع السياسي والفكري وهيمنة القوى المتسلطة على أصحاب الرأي. الزمن واحد ممتد، كأنما التاريخ العربي منذ ابن المقفع وحتى اليوم يدور في نسق واحد من التخلّف والتردي، كأنّ «السياسي» في العالم العربي ما زال ينظر إلى «الثقافي» نظرة التوجس والترصد لاعتقاله وزجّه في غياهب السجون أو إيداعه في «ثرى الوطن»، في الوقت الذي ينبغي فيه أن يحكم الثقافيُّ السياسيَّ، أي أن تكون السياسات العربية من تفصيل ونسج إبرة المثقف المفكّر وخياطته ووفق مقصّه - قلمه. وأن يكون الزمن الآن شبيهاً لذاك الزمان فهذا يعني أننا أمة تعيش في ماضيها وتجترّ نفسها وتاريخها، وتقبع في مستنقع لم تخرج منه منذ ما يربو على الألف عام. يحكي محمد البندر حكاية عالمنا العربي، حكاية لبنان وكل وطن من أوطاننا، حكاية الفساد الذي يعشّش في كل شيء: في النفوس والناس ودوائر الدولة والحكومات والمجالس والرئاسات، في القضاء ورجال الدين، في الأمن والشرطة والعسكر الذين ـــ بدل أن يحموا الأرض والناس ــــ يشرّعون جيوبهم للسماسرة والمهربين وتجار الدم. يظهر قبحنا الكامل، يعرّي هشاشة دولنا وأنظمةِ حكمنا، ويضع إصبعه في عين الشعوب القابلة بكل هذا، فيجعلها شريكة في نحر نفسها على يد من تترك لهم فرصة أن يمتطوها رؤساء وزعماء ولو كانوا شغل الصدفة واستيلاد السفارات والدول الكبرى كأنّه يقول لنا إنّ شعوباً تحكمها الحمير هي أشد غباءً منها.
كل ما في رواية محمد البندر سيميائي ودلالي: اختيار الإطار الحكائي على ألسنة الحيوانات التي تظلّ، رغم كل ما فيها من غريزة وتوحش، أقل فظاعة من البشر الذين تجاوزوا كل شيء. المكان دلالي بامتياز، فالغابة ليست غابة بل ترميز للوطن المنهوب المحكوم بالأراذل. وحديقة الحيوانات هي حديقة البشر، إذ تنقلب المعايير، فيصبح البشر وسيلة تتفرج عليها الحيوانات وتشمئز من سوء فعالها.
والزمان دلالي رمزي ما بين الثاني عشر من آب (أغسطس) 2012 والثامن من آب (أغسطس) 2020. كأننا أمام المرحلة الزمنية ما بين الأزمة السورية وبين انفجار بيروت، بكل ما فيها من خضّات سياسية وسقوط أنظمة وسفك دم وحروب طاحنة وفوضى عارمة وصراع على السلطة وانهيار للمنظومات الأخلاقية والسياسية، وإعادة ترسيم الخرائط تحت عين العم سام وفوهة مسدسه.
والشخوص في الرواية مجرد ترميز إلى الحكّام والساسة وصراعهم على الكراسي ولو أدى ذلك إلى تلف الحجر والبشر، وترميز للقضاء بكل ما يعتريه من فساد ورشى، وترميز للقمع والديكتاتورية التي تتجلبب بزي الديموقراطية. وترميز للسلطة الأمنية التي تعتقل وتملأ السجون بأصحاب الرأي، فهذا الوطن الممتد من النهر إلى النهر سجون متضايقة سجّانٌ يمسك سجّاناً، وإن تزين بزينة الديموقراطية فهي ديموقراطية زائفة متوهّمة تمثل صورة لطيفة عن الديكتاتورية المقنعة، كما هو الحال في لبنان حيث الانتخابات والبرلمانات والمجالس والمؤسسات كلها مجرد ديكورات لإيصال الأسوأ إلى كرسي السلطة، إيصال من لا همّ له سوى إشباع شبقه للمال والسلطة وغيرها من الغرائزيات الخطرة.
ولا يغفل محمد البندر بوصفه إعلامياً عن التطرق إلى قضايا الإعلام ودوره في العالم العربي، ومنه لبنان، فبدل أن يكون ناقلاً للحقيقة وصانعاً للرأي العام لمواجهة الفساد والتسلط، وسلطةً رابعة تراقب وتحاسب ويحسب لها الحاكم والسياسي وكل عامل في الشأن العام ألفَ حساب، تتحول في بلادنا إلى بوق دعائي لنشر الفساد والخراب والطائفية والفئوية والعصبية والتطبيل للحاكم والزعيم المقدس، فيرمز الكاتب في روايته إلى الإعلام الذي يدس الدسائس ويصنع الفتن.
تجري الأحداث ما بين الأزمة السورية وانفجار مرفأ بيروت


هكذا تنقلب الثنائيات عن أصولها المنطقية والجمالية، وتصبح أوطاننا غابة بلا شريعة ولا قانون، يتسنّم أسوأ من فيها سدة الحكم والرئاسة فيها، ويهلّل الشعب فيها لكل من يستثير الغرائز والعصبيات والمصالح الخاصة، كأنّه يصور أوطاننا العربية كلها، بكل ما يعتريها من فساد وخراب وظلم وطحن للمواطن بين سندان العدو الخارجي ومطرقة الحاكم الفاسد.
كل ذلك لا يمنع من أن تعلو ضحكاتك من سخرية مريرة تطالعك في الرواية من التسميات الآتية من عالم الحيوان ومدى انطباقها على الصفات والشخوص، حتى يكاد اسم الشخصية يبدو منحوتاً نحتاً من الصفة التي يعبّر عنها أو يشير إليها في العالم الواقعي للإنسان.
لا نبالغ إذا قلنا عن رواية محمد البندر إنها رواية الواقع المرير لأوطان منكوبة بكل تفاصيلها، بلغة إعلامية تقدّم الحدث عبر تسلسله التاريخي السياسي والاجتماعي، وبرؤيا ثقافية تقول ما كان على اعتبار إنّه مقدمة ما يكون وما سيكون، بلغة ساخرة تستلهم التراث العربي الكتابي عبر «كليلة ودمنة» لتقدّم عبره واقع أوطان سلّمها أبناؤها إلى أسوأ من فيها من لصوص وقوادين وعملاء، فدفعوا مستقبلهم ومستقبل أبنائهم ثمناً لذلك. ونستعير هنا خاتمة الرواية: «مات الجميع، واحترق الأخضر واليابس، ووسط هذا البحر من اللهب والموت لم تُكتب الحياة إلا لناجٍ وحيد كان يحلّق في الأجواء البعيدة، إنه النسر «إيغل» الذي كان شاهداً على تلك المجزرة المروّعة فقال في حسرةٍ وغضب: هذا مصير الأمم التي ترضى باستحمارها»