بدأت حكومة نفتالي بينت، منتصف الشهر المنصرم، تسويق وحدات استيطانية في «مستوطنة ترامب»، في إطار «خطّة وطنية للجولان» لمضاعفة عدد المستوطنين، وسط صمت أميركي مطبق، سبقه قبل شهور إعلان إدارة جو بايدن أن لا نيّة لديها لإلغاء قرار سلفها الاعتراف بـ«السيادة الإسرائيلية» على الهضبة السورية. وإذا كانت الخطط الإسرائيلية الجديدة مرتبطة بحسابات سياسية وانتخابية لدى بينت القلِق على شعبيّته في أوساط اليمين، فهي لا تخرج أيضاً من سياق أعرض بدأ منذ ما بعد احتلال عام 1967، عنوانه توسيع سيطرة الكيان العبري وتثبيتها في الجولان، بوصف الأخير ركناً أساسياً في الحفاظ على «أمن إسرائيل»
يرى الباحث الإسرائيلي أوري هايتنر، أن موضوع الاستيطان الإسرائيلي في هضبة الجولان السورية، والذي بدأ فور احتلالها إثر حرب حزيران 1967، "لم يخضع للبحث الجدّي في حقل الدراسات الإسرائيلية". لكن ما هو واضح، على الأقلّ، أن الحكومة الإسرائيلية أرادت في حينه إرساء ترتيبات أمنية لتوقيع «معاهدة سلام» مع مصر وسوريا، تتضمّن حلّاً لقضية المياه، مقابل أن تنسحب إلى خطّ الحدود الدولية. على أن تلك الترتيبات التي اتّسمت بالطابع السرّي آنذاك، لم تكن، بحسب ما ظهر لاحقاً، إلّا ورقة للمساومة حملها معه وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، أيا إيبان، إلى واشنطن لمواجهة احتمال تعرّض إسرائيل لضغوط دولية للانسحاب الفوري من دون اتفاق، ولكنّ المفاجأة كانت في أن الولايات المتحدة لم تسلّط أيّ ضغوط على حليفتها، ولذا قرّرت الحكومة الإسرائيلية البدء في المشاريع الاستيطانية فوراً. وكان شبّان «الكيبوتسات» (القرى الزراعية – التعاونية اليهودية) شرعوا، بعد أيام قليلة من احتلال الجولان، في إنشاء معسكر على أنقاض آخر للجيش السوري في بلدة العليقة، وذلك بحجّة تجميع الأبقار الضالّة إثر الحرب في أنحاء الهضبة. ومن هنا، بدأ أوّل مشروع استيطاني في الجولان؛ حيث سارعت حكومة الاحتلال، بعد شهر ونصف شهر على الحرب، إلى شرعنة المعسكر المذكور، الذي تطوّر لاحقاً إلى مستوطنة "ميروم هجولان". باختصار، في البدء كانت "ميروم هجولان"... ثمّ انطلق الاستيطان.
بعد الحرب، بقيت خمس بلدات سورية يسكنها اليوم 26 ألف سوري، وهي مجدل شمس ومسعدة وبقعاتا وعين قنية والغجر، فيما تسيطر إسرائيل على 1200 كيلومتر من مساحة الهضبة التي أقامت فيها 33 مستوطنة، يقطنها نحو 27 ألف مستوطن. غير أن الأهمّية الكبرى التي توليها إسرائيل للجولان لا تتجلّى في الاستيطان فقط، إنّما أيضاً في استغلال الموارد الطبيعية وتعزيز الاستثمارات، إذ ثمّة أكثر من 80 شركة إسرائيلية مسجّلة في الكيان العبري يعمل معظمها في الهضبة المشهورة بزراعة التفاح والكرز، وكروم العنب التي تنتج أفخر أنواع "النبيذ الإسرائيلي". كما أن العدو يعتمد تربية المواشي في هذه المستوطنات لتوفير 50 بالمئة من حاجة مستوطنيه إلى اللحوم، فضلاً عن منابع المياه، والمشاريع السياحية التي تدرّ ملايين الدولارات سنوياً على الحكومة الإسرائيلية.

توقيت مشبوه لمشاريع جديدة
أثارت تصريحات رئيس الورزاء الإسرائيلي نفتالي بينت، الأخيرة، حول الاستيطان في الجولان، جملة تساؤلات في مقدّمها ما يرتبط بتوقيت الإعلان عن مشاريع استيطانية جديدة في الهضبة. يَفترض المحلّل السياسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ناحوم برناع، في تقرير له قبل أيام، أن بينت كان يخطّط لاستهداف جمهور "الوسط" السياسي في إسرائيل، على اعتبار أن شعبيّته لدى اليمين «مضمونة»، ولكنّ استطلاعات للرأي حول الانتخابات أُجريت مطلع الشهر الحالي، كشفت عن تراجع قوّة حزبه السياسية في الأوساط اليمينية، فضلاً عن أن أعضاء حزبه "يمينا" لا يزالون منزاحين إلى اليمين السياسي على رغم تحالفاتهم في الحكومة الحالية. ولذا، فهو قرّر "تغيير المسار" والعودة إلى مخاطبة الجمهور اليميني، وهذه المرّة من خلال المشاريع الاستيطانية في الجولان، والتي على ما يبدو ستُنفّذ وسط صمت أميركي، على حساب تعزيز الاستيطان في الضفة، خصوصاً أن والولايات المتحدة أعلنت قبل أشهر أنها لن تتراجع عن قرار إدارة دونالد ترامب الاعتراف بـ«السيادة» الإسرائيلية على الهضبة. وكان عام 2019 قد شهد الإعلان عن خطط إسرائيلية لتكثيف الاستيطان في الجولان، وأهمّها خطّة لتوطين 250 ألف يهودي أعدّتها وزارة الإسكان الإسرائيلية، في أعقاب قرار إدارة ترامب المذكور. وطبقاً لتقرير نشرته الإذاعة الرسمية الإسرائيلية في مطلع نيسان من عام 2019، فإن الخطة المشار «تشمل بناء 30000 وحدة استيطانية في مستوطنة كتسرين، وإنشاء مستوطنتَين جديدتَين في الجولان، وتوفير عشرات الآلاف من فرص العمل، إلى جانب الاستثمار في البنية التحتية المتعلّقة بالمواصلات والسياحة، وربط الجولان بشبكة النقل العام».
بدأت السلطات الإسرائيلية، منتصف الشهر المنصرم، تسويق 99 وحدة سكنية في «مستوطنة ترامب»


إلى جانب ذلك، بدأت السلطات الإسرائيلية، منتصف الشهر المنصرم، تسويق 99 وحدة سكنية في "مستوطنة ترامب" التي أقيمت في الجولان تكريماً للرئيس الأميركي السابق. كما كشفت صحيفة "إسرائيل اليوم"، في تقرير بتاريخ 11/10/2021، أن "وزارة البناء والإسكان الإسرائيلية تعمل من أجل أن تتّخذ الحكومة قراراً لمضاعفة عدد سكان الجولان بحلول 2026؛ حيث سيتمّ تسويق سبعة آلاف وحدة سكنية استيطانية إضافية في الجولان"، وهو ما عبّر عنه وزير الإسكان زئيف إلكين، في مؤتمر "الجولان للاقتصاد والتطوير الإقليمي" الذي نظّمته صحيفة "ماكور ريشون" الإسرائيلية، بالقول إن"هضبة الجولان منطقة استراتيحية وهامّة للغاية، وإن برنامج مضاعفة عدد السكان فيها سيعزّز قوّة المنطقة وسيساعد في تحديث وبناء البنية التحتية اللازمة لتطوير المستوطنات... في الوقت الذي نمنع فيه إيران والجماعات المسلّحة من التموضع العسكري في الجولان في الجانب السوري، نحن في الجانب الإسرائيلي نستمرّ ونتعمّق ونتوسّع ونضاعف الاستيطان". أمّا بينت، فأكد في المؤتمر ذاته أن "حكومته ستعقد بعد 6 أسابيع (منتصف الشهر) جلسة خاصة في الجولان، لتصادق خلالها على خطّة وطنية للهضبة". وأوضح أن "هدفنا يتمثّل في المضاعفة، ثمّ المضاعفة مرّة أخرى، لعدد سكان الهضبة. نحن مصمّمون على مضاعفة عدد السكان وعلى إنشاء بلدتَين جديدتَين، وإيجاد فرص عمل، وضخّ المزيد من الاستثمارات في البنى التحتية".
في المحصّلة، ومع أن بينت يستثمر سياسياً في الجولان من طريق مخطّطات استيطانية، لاكتساب مزيد من المؤيدين اليمينيين، وترجمة هذا التأييد من خلال مقاعد برلمانية لاحقاً، فالأكيد أن الاستيطان في الأرض السورية التي احتلّتها إسرائيل منذ عام 1967، يمثّل أحد أهمّ الأعمدة الرئيسة للحفاظ عليها، وعلى «أمن إسرائيل»... التي يعمل قادتها بوصية رئيس الوزراء الراحل إسحق رابين :"إن من ينزل عن هضبة الجولان يكون قد تخلّى عن أمن إسرائيل".