دشّنت القمة الخليجية ــ الأردنية، التي عُقدت في مكة في الـ11 من الشهر الجاري، مرحلة كسر العزلة عن المملكة الهاشمية في الترتيبات الجاري العمل عليها لإعلان «صفقة القرن». مرحلة تؤكد التطورات الأخيرة على خطّ واشنطن - عمّان بأنها أضحت مطلوبة أميركياً، بعدما بدا للولايات المتحدة أن استراتيجية الابتزاز الاقتصادي (والتي توضح الوثيقة المنشورة هنا بعضاً من تفاصيلها) لم تفلح في ترويض الأردن بما يكفي، بل وأدت إلى تهديد استقراره المطلوب إسرائيلياً.منذ مدة غير قصيرة، يعاني الأردن أزمات سياسية واقتصادية متنوعة. لكنها المرة الأولى التي يشعر قسم من الجمهور بأنّ الملك عبد الله الثاني يتحمّل مسؤولية مباشرة بسبب عدم تفرّغه لمتابعة الأوضاع الداخلية، واعتماده سياسة الولاء والطاعة مع قوى الغرب. وربما من المرات النادرة التي يتعرض فيها لهجوم مباشر وعلني من قبل الجمهور على خلفية اتهامه بصرف المال العام في ألعاب القمار، وفي ترك زوجته وعائلتها يسيطرون على الاقتصاد والتجارة.
لكن الجميع في الأردن، شعباً وحكومة وملكاً، يعرفون أنّ هذه الدولة تعيش فعلياً على المساعدات الخارجية. وهي مساعدات ترد من دول عربية أو غربية، لكن بطلب أو غطاء أميركي. وفي كل مرة، يحاول الأردن المناورة، يكون الرد بوقف ضخّ المساعدات إلى أن جاء التحدي الأكبر مع «صفقة القرن» التي يعيش الملك الأردني، كما شعبه، هاجس أنها ستؤدي إلى قيام دولة فلسطينية على حساب الأردن.
وبحسب مصادر دبلوماسية متابعة، فإن أكثر ما أقلق الملك كان في تجاهله من قبل المخططين بدءاً بالولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل وصولاً إلى السعودية. ووصل به الأمر إلى حد التلويح بأن استمرار تجاهله ومصالح بلاده سيقدم على خطوات لا تخدم هذا المحور، وخصوصاً في سوريا. وهو أعد أو أعلن – بشكل ضمني – عن مجموعة من الخطوات التي تشمل إرسال وفد من مجلس الأعيان لزيارة الرئيس السوري بشار الأسد، ثم عقد لقاءات على مستوى مسؤولي الاستخبارات، والمباشرة بخطوات عملية تهدف أولاً إلى فتح معبر نصيب بعد تسليمه إلى الحكومة السورية، والدفع إلى مصالحات تسمح بإعادة قسم كبير من النازحين السوريين إلى وطنهم. وحصل خلال هذه الفترة أن سرّبت عمان بعض المعلومات الأمنية التي تفيد الدولة السورية في مواجهة الإرهاب.
في كل مرة يحاول الأردن المناورة يكون الرد بوقف ضخّ المساعدات


كل ذلك أغضب الأطراف الأخرى، وربما كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الأكثر تعبيراً عن «ضيقه» من الملك الأردني. يقول مقربون من الطرفين إنه، بخلاف تجارب سابقة، فإن «الكيمياء» لم تركب بين ابن سلمان وبين الملك الأردني. حتى أن اللقاءات القليلة بينهما كانت باردة وفيها جدول أعمال محدد وتنتهي غالباً من دون اتفاق عام، وأن ابن سلمان تعمّد إذلال عبدالله الثاني عندما قال له: «إن سياستنا الجديدة تقضي بتبادل الخدمات، ونحن لم نعد جمعية خيرية، وكل ما يجب علينا دفعه، نتوقع المقابل من الطرف الآخر».
لم يكن الملك الأردني يعرف كيفية تحقيق الاختراق لكنه استفاد من عوامل عدة، بينها تراجع نفوذ المحور الذي تقوده السعودية في العراق وسوريا، وانقطاع التواصل مع السلطة الفلسطينية بعد قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وظهور مؤشرات على احتجاجات شعبية في الأردن بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة. يهمس أردنيون بأن الاستخبارات الأردنية لم تكن بعيدة عن هذه الاحتجاجات وأن الاحتواء السريع لها لم يكن فقط بسبب إقالة الحكومة بل بسبب الدور السريع الذي لعبته الاستخبارات، والتي تملك اليوم نفوذاً كبيراً جداً، وبما يتناسب مع سياسة الملك نفسه.
الحال أن واشنطن تلقت نصائح أبرزها من إسرائيل بضرورة مراعاة الأردن، ومنع انهياره، حتى أن الغرب لفت انتباه السعودية إلى أن انهيار الأردن ستكون له انعكاسات سلبية على الجوار، وعلى السعودية وإسرائيل على نحو خاص، وبالتالي، صار المطلوب إعادة احتواء الموقف ما يلزم الجميع بالعودة إلى «منطق الرعاية». وهو ما حاول الملك الأردني استغلاله إلى الحد الأقصى، فطالب بدعم سريع بخمسة مليارات دولار تُدفع على خمس سنوات. الأمر الذي انتهى البحث حوله في قمة جدة إلى النصف، علماً أنه لم يجر تحديد طبيعة الإنفاق، وهل المبلغ يخصّ دعم عجز الموازنة العامة أو دعم مشاريع استثمارية وتشغيلية.
في هذه الأثناء، اكتشف الأميركيون أن الأردن قد يكون الطرف الأكثر قابلية من السلطة الفلسطينية كقناة تواصل مع الآخرين العاملين على «صفقة القرن»، لا سيما أن الرئيس محمود عباس كان قد ألمح أمام مسؤول أميركي، بأن القضية الفلسطينية تواجه محاولات التصفية منذ عقود، لكن الأردن قد يكون الضحية الأولى لصفقة القرن. وهو الكلام الذي قاله مسؤولون إسرائيليون محذرين من اندلاع حرب أهلية في الأردن تضرب الاستقرار الذي ميّز هذه الدولة لفترة طويلة.
وفي سياق ترتيب الوضع في الأردن، تبيّن أن الجانب الأميركي عمل منذ شهور طويلة على التدخّل في آليات عمل الحكومة وسياساتها الاقتصادية والمالية والنقدية، وهو ما تظهره وثيقة سرية حصلت عليها «الأخبار» من مصدر عربي واسع الاطلاع، تشير إلى نوع المحادثات والطلبات الأميركية من الأردن، والتي كان أبرزها القرار الخاص بالسياسة الضريبية التي كانت سبباً لاحتجاجات الجمهور.

كان ولي العهد السعودي الأكثر تعبيراً عن «ضيقه» من الملك الأردني


لذلك، يمكن القول إن العزلة التي فُرضت على النظام الأردني منذ إعلان الرئيس دونالد ترامب القدس عاصمة للكيان الصهيوني في كانون الأول 2017 قد انتهت في شكل عملي خلال الأسبوع الماضي، أو في شكل أدق منذ لقاء مكة (جمع الملكين السعودي والأردني وأمير الكويت ونائب رئيس دولة الإمارات)، حيث لم يعد هناك مفر من المرور بعمّان لإنهاء ترتيبات المرحلة المقبلة وما تحمله من مكاشفة في العلاقات السعودية ــ الإسرائيلية.
قد شهدت عمان لقاءات ماراثونية متتابعة رفيعة المستوى بين عرّابي «صفقة القرن». زيارة أولى قام بها بنيامين نتنياهو والوفد المرافق بشكل مفاجئ وبمعلومات شحيحة لا ترقى لمستوى الحدث، ولا لطبيعة من حضر اللقاء عن الجانب الإسرائيلي، خصوصاً مع ما تناقلته الصحافة العبرية عن حضور ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، للقاء «المتسللين» الذي لم يعلن عنه إلا بعد انتهائه ومن دون أن يختتم بمؤتمر صحافي أو حتى صور توثيقية بحسب البروتوكولات المعمول بها في الزيارات الرسمية إلى الأردن (مصدر حكومي رسمي نفى للصحافة المحلية حضور ابن سلمان الاجتماع المذكور، واعتبر ما تم تناقله إشاعات). أما جاريد كوشنر (مستشار ترامب) وجايسون غرينبلات (مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط) فوصلا بعد هذه الزيارة إلى عمّان واجتمعا مع الملك ومعاونيه، إضافة إلى السفيرة الأردنية في واشنطن.
ثم، على نحو مفاجئ أيضاً، أُعلن عن زيارة عبد الله الثاني إلى الولايات المتحدة للتباحث مع ترامب في وضع بلاده وصفقة القرن والأزمة السورية. مع الإشارة إلى أن وزير الخارجية أيمن الصفدي، الذي رافق الملك، التقى مسؤول المفاوضات الفلسطيني صائب عريقات برفقة المسؤول عن التنسيق الأمني مع إسرائيل اللواء ماجد فرج.
ومن الواضح أن هناك قناعة لدى الإدارة الأميركية بأنّ النظام في الأردن هو الأقدر على فهم «السلطة» وهو متنفسها الإلزامي الوحيد إذا ما تم إعلان دولة فلسطينية تحت أي شكل من الأشكال. ومن جانب آخر هناك مصلحة مشتركة بين السلطة الفلسطينية وعمان، خصوصاً أن الثانية تتمسّك بمسألة حل الدولتين وبالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين على حدود الرابع من حزيران 1967، عدا عن كون الوصاية الهاشمية على المقدسات امتيازاً للعائلة الحاكمة التي جاءت من الحجاز وأقام أبناؤها عدة ممالك لم يبقَ منها إلا المملكة الأردنية.
داخلياً، لم يفسح الملك في المجال أمام أي جهة للتدخّل في هذه الملفات. وتولى هو وديوانه زمام الأمور في العلاقات الخارجية والداخلية، وعلى رغم الاحتجاجات الأخيرة والتي أدت لسقوط حكومة وتكليف أخرى، فإن عمل الحكومة لا يلامس التحركات الدبلوماسية سواءً على صعيد ترتيبات المرحلة المقبلة فلسطينياً أو التطورات في الجنوب السوري وحتى الأحلاف التي يشارك بها الأردن ومنها «التحالف العربي» في اليمن ووصولاً إلى المساعدات التي أُعلن عنها في اتفاق مكة. وزير الخارجية، فقط، هو من حافظ على مركزه منذ الحكومة السابقة وهو من يرافق الملك، وقد أعطى ظهور رئيس الاستخبارات إلى جانبه، أهمية أمنية لما يدور.
وفي واشنطن، عقد الملك اجتماعات مكثفة كان من بين أهدافها مسألة دعم منظمة «الأونروا»، وهو من الملفات المقلقة لعمان، لا سيما أن عدد الفلسطينيين المسجلين لدى الوكالة في الأردن يربو عن 40 في المئة من مجموع اللاجئين المسجلين. ومع تراجع خدمات «الأونروا» سيزيد العبء على الأردن المنهك جراء تداعيات اللجوء السوري. كذلك التقى الملك بوزير الخزانة ستيفن منوتشين ووزير التجارة ويلبور روس، في محاولات لتعزيز وضع الأردن الذي وقّع اتفاقية تجارة حرة مع واشنطن منذ سنوات.

مذكرة ثنائية سرية: الشروط الأميركية على الأردن
مقابل دعم واشنطن للأردن، فرضت عليه العديد من الشروط أبرزها الإصلاح الضريبي Administration Tax، ما أوصله إلى أزمة اقتصادية ومعيشية غير مسبوقة أطاحت حكومة هاني الملقي وأصابت الحكم الملكي بتصدعات.
هناك مذكرة تفاهم بين البلدين حول التعاون الإستراتيجي الذي يحكم المساعدات الأميركية الاقتصادية والعسكرية، والتي يتم تجديدها دورياً ويوقعها وزيرا خارجية البلدين، أما الجديد فهو ما كشفته مذكرة التفاهم الأخيرة التي وقعها الطرفان عن الفترة الممتدة من عام 2018 حتى عام 2022.



نص المذكرة السرية
حصلت «الأخبار» على نص مسودة مذكرة التفاهم التي كان يناقشها عن الجانب الأردني وزير التخطيط والتعاون الدولي في الحكومة المستقيلة عماد نجيب فاخوري مع السفارة الأميركية في عمان واستكملها بمحادثات مع مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن في 10/10/2017، ثم مع وفد أميركي برئاسة نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ريتشارد آلبرايت في 24/10/2017، بمشاركة رئيس هيئة التخطيط الاستراتيجي في القوات المسلحة الأردنية العميد نصار العثمانية.
وجاء في المذكرة أنه: «كما حال المذكرتين اللتين وقعتا في العامين 2008 و2015، فإن مذكرة التفاهم هي مذكرة سياسية تظهر نية الولايات المتحدة تزويد الأردن بتمويل اقتصادي (ESF) وعسكري (FMF) سنوي لمدة محددة تبدأ في السنة المالية 2018. وتعتمد نية الولايات المتحدة بتزويد الأردن بالمساعدات المالية والعسكرية وفق المذكرة على توفير المخصصات اللازمة وأن يتم تخصيصها (من قبل الإدارة والكونغرس)».
وتربط المذكرة الدعم بالأهداف المطلوب تحقيقها في عدد من المجالات وهي:
- الأهداف العسكرية: مشاركة القوات المسلحة الأردنية في محاربة «داعش» والعمل سوياً مع القوات الأميركية وشراء المعدات والخدمات الدفاعية الأميركية، وإضافة إشارة إلى العطاءات العسكرية بما يؤكد الشراء من مصادر أميركية.
- الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في الأردن وضمان الاستخدام الفعّال للمساعدات المالية الأميركية في جهود الإصلاح الأردنية.
لم تحدد المذكرة قيمة المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى الأردن ومجموعها، وربطتها بمزيد من التفاوض. وعلى رغم أن المذكرة لم تخض في تفاصيل متطلبات الإصلاح السياسي والحكومي كما كانت عليه الحال في مذكرة عام 2015 حول هيئة النزاهة والهيئة المستقلة للانتخابات، لكن المذكرة الجديدة أفردت مساحة خاصة للحديث عن مسألة الإصلاح الضريبي Administration Tax. ولم تضف مذكرة التفاهم الجديدة ما كانت تضمنته المذكرات السابقة باعتبار شروطها نافذة ولا داعي لتكرارها، ومن أبرز هذه الشروط: التعاون عسكرياً لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، والتنسيق سياسياً في المسائل الإقليمية، ودعم الإصلاح السياسي والحكومي والاقتصادي في الأردن.
- أبقت المذكرة على نقطة غامضة تتعلق بإعداد مرفق تصيغه الولايات المتحدة حول مجالات التعاون، واشترطت على الحكومة الأردنية وضع تصور بأولوياتها في مجالات التعاون قبل الشروع في التفاوض مع الجانب الأميركي.
وعلمت «الأخبار» أن الأردن سعى لزيادة مدة المذكّرة من ثلاث سنوات، كما كانت تريد واشنطن، إلى خمس سنوات ربطاً بشروط البنك الدولي والمؤسسات الدولية التي وضعت سقفاً زمنياً لمسألة الإصلاح المالي وعلى أساس خمس سنوات.
كذلك، طلب الجانب الأردني خلال المفاوضات بأكبر قدر من الحوالات النقدية Cash Transfer لدعم الموازنة، خصوصاً أن مؤسسات الرقابة المالية الدولية قد خفضت مؤشرات الأردن المالية من +BB إلى –B نتيجة ازدياد العجز في الموازنة التي تزامنت مع انتهاء المنحة الخليجية.
ــ في الأرقام المتعلقة بالمساعدات المالية، تضمنت المذكرة سعياً لرفع مستوى الدعم الكلي إلى مليار ونصف المليار دولار سنوياً، وطلب الأردن برفع الحد الأدنى للمساعدات الاقتصادية إلى 750 مليون دولار، والحد الأدنى للمساعدات العسكرية إلى 350 ــ 400 مليون دولار.