عاد مشهد الاضطرابات الأمنية إلى روسيا، المنشغلة في الأشهر القليلة الماضية بتعزيز تقدُّمها على الجبهة الأوكرانية؛ إذ شهدت البلاد، أول من أمس، عدداً من الهجمات المتزامنة في جمهورية داغستان طاولت كنيسَين يهوديَّين، إضافة إلى كنيستَين أرثوذكسيّتَين، ونقطة تفتيش تابعة للشرطة في الجمهورية الواقعة شماليّ القوقاز. والحدث الأمني في الإقليم ذي الغالبية المسلمة، والذي لم تتبنّه أيّ جهة بعد، وقع في موازاة تعرُّض مدينة سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم لهجوم صاروخي أوكراني، أسفر عن مقتل أربعة أشخاص، وإصابة أكثر من 150 آخرين.
الرواية الرسمية الروسية: أوكرانيا حليفة «الإرهابيين»
أعلنت «لجنة مكافحة الإرهاب» الروسية، أمس، أن الهجمات التي استهدفت مدينة محج قلعة، عاصمة داغستان، ومدينة ديربنت الساحلية، تخلّلها تبادل لإطلاق النار مع قوات الشرطة على مدى ساعات، واستخدام قنابل مولوتوف الحارقة، مؤكدة انتهاء ما وصفته بـ»الهجمات الإرهابية»، وبلوغ حصيلة القتلى الناجمة عنها 20 شخصاً، من بينهم 15 شرطياً و4 مدنيين، أحدهم كاهن أرثوذكسي، إضافة إلى 6 من المهاجمين. كما اكتفت اللجنة بالإعلان عن بدئها «تحقيقاً جنائياً» في الحادث، من دون إعطاء المزيد من المعلومات عن العدد الإجمالي لمنفّذي الهجمات، أو تفاصيل إضافية عن هوياتهم ودوافعهم. وفي هذا السياق، نقلت وكالة «تاس» الروسية للأنباء عن مصدر أمني، قوله إن «المسلّحين الذين نفّذوا الهجمات هم من أنصار منظمة إرهابية دولية»، لم يسمّها، كاشفاً أن من بين هؤلاء اثنين من أبناء رئيس منطقة سرجوكالا وسط داغستان، الذي تحتجزه السلطات الروسية حالياً.
من جهته، أعلن رئيس جمهورية داغستان، سيرغي ميليكوف، في كلمة إلى مواطنيه، الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام، وإلغاء جميع الفعاليات الترفيهية في الإقليم، قائلاً إنه «يعرف مَن يقف وراء الهجمات الإرهابية والهدف الذي يسعون إليه». وفي مؤشر إلى محاولته الربط بين منفّذي هجمات داغستان، ذات الحكم الذاتي، وحكومة كييف، رأى ميليكوف أن ضحايا الهجمات الأخيرة، والجنود الروس الذين يقاتلون في أوكرانيا، «يواجهون العدوّ نفسه»، متعهّداً بـ»القبض على جميع أعضاء الخلايا المتطرّفة النائمة التي تم إعدادها من قِبَل جهات خارجية». وأضاف ميليكوف: «علينا أن نفهم أن الحرب (مع أوكرانيا) قد انتقلت إلى داخل وطننا».
يربط محلّلون بين هجمات داغستان وتنامي السخط لدى مسلمي روسيا تجاه اليهود عموماً، وكيان الاحتلال خصوصاً


وفي سياق متصل، أعرب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن «خالص العزاء» لذوي الضحايا من مواطنيه في داغستان، وشبه جزيرة القرم، فيما لمّح الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إلى وجود صلات بين الهجومَين، من دون أن يوجّه اتهامات مباشرة إلى كييف وحلفائها الغربيين في هذا الخصوص. أمّا البرلماني الروسي ليونيد سلوتسكي، فقد كان أكثر وضوحاً في تصريحاته عقب الهجمات، إذ اتهم الغرب بالضلوع في الأحداث الدامية التي شهدتها بلاده. وأضاف سلوتسكي أن الهجمات تهدف إلى «ترهيب الشعب الروسي، وبثّ مشاعر التفرقة بين أبنائه»، مشيراً إلى أن أيدي الولايات المتحدة ملطّخة بدماء ضحايا تلك الأحداث. والموقف ذاته عبّرت عنه وزارة الدفاع الروسية، في بيان ذهب إلى حدّ تحميل واشنطن «بالدرجة الأولى» المسؤولية عمّا جرى، وتحديداً في ما يتعلّق بالهجوم الصاروخي على شبه جزيرة القرم، كاشفة أن الهجوم تم باستخدام صواريخ «أتاكمس» الأميركية الصنع، والتي يصل مداها إلى حوالي 300 كيلومتر. وتوعّدت الوزارة كلّاً من كييف وواشنطن، بأن «أفعالاً كهذه لن تبقى من دون إجراءات عقابية على المستويَين العسكري والقانوني».

بين هجمات داغستان وقصف القرم
ويربط محلّلون بين هجمات داغستان، التي تقع على الواجهة البحرية لمنطقة القوقاز على بحر قزوين، وبين تنامي مشاعر السخط لدى مسلمي روسيا، تجاه اليهود عموماً، وتجاه كيان الاحتلال خصوصاً، إزاء استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، ولا سيما أن الجمهورية شهدت، خلال الأسابيع الأولى من بدء الحرب في القطاع الفلسطيني المحاصر، رفض حشود تجمهرت في مطار العاصمة محج قلعة، هبوط طائرة قادمة من إسرائيل. في المقابل، يرى آخرون، في وجهة نظر تميل إليها موسكو وتروّج لها، أن هناك تحالفاً موضوعياً بين التنظيمات الجهادية المتطرّفة المنتشرة في منطقة القوقاز، كـ»داعش - خراسان»، وبين كييف، ذلك أنّ الأول يسعى إلى استغلال ظروف الحرب على غزة من جهة، وانشغال روسيا في حرب أوكرانيا من جهة ثانية، لتعزيز أجندته في ضرب قائمة من الدول المصنّفة «عدوّة» على قائمة «الجهاديين»، فيما تحاول الثانية الاستفادة من وجود تلك التنظيمات كـ»جبهة موازية» ضدّ موسكو، لصرف انتباهها نحو ثغرات أمنية ذات طابع محلي. ولعل هذه الاعتبارات تفسّر إصرار روسيا على توجيه أصابع الاتهام إلى كييف، في شأن المسؤولية عن الهجوم الذي وقع داخل أحد مسارح العاصمة موسكو، قبل نحو ثلاثة أشهر، على رغم تبنّيه من قِبَل تنظيم «داعش».
والواقع أن هذا «التقاطع» المفترض في الأهداف بين كييف و»داعش»، تبرّره التعليقات الصادرة عبر حسابات موالية للحكومة الأوكرانية على موقع «إكس»، كحساب «War is Translated»، تعاملت مع هجمات داغستان بوصفها «مؤشراً إلى فقدان بوتين زمام السيطرة في بلاده»، وقنوات إعلامية «جهادية» تابعة لتنظيم «داعش - خراسان»، كقناة «Al-Azaim Media»، هلّلت للهجمات، من دون أن تشير إلى تبنّيها صراحة من جانب التنظيم. ويتوقّف المحلّل الأمني المختصّ في شؤون القوقاز، هارولد تشامبرز، عند تطوّر ملحوظ في تكتيكات التنظيمات «الجهادية» في القوقاز، موضحاً أن استعاضة الخليّة التي نفّذت هجمات داغستان، عن أسلوب العبوات المفخّخة، بالأسلحة النارية يعكس تطوّر القدرات التكتيكية والمالية والبشرية لديها. في المقابل، يرى «مركز دراسات الحرب» الأميركي أن المواقف الصادرة عن المسؤولين الروس عقب هجمات داغستان والقرم ترجّح أن «نهج موسكو في مكافحة الإرهاب، والمستند إلى خطاب (عدائي) ضدّ أوكرانيا والغرب، سيستمرّ عوضاً عن الالتفات إلى تحييد تهديدات داعش في الداخل».