ومنذ أن أطلق وزير الخارجية التركي السابق، مولود تشاووش أوغلو، في مطلع آب 2022، مسار التقارب بين أنقرة ودمشق، توالت المواقف المرحّبة بهذا المسار، والذي لعبت روسيا الدور الأبرز فيه. وأسفرت وساطة موسكو، في نهاية العام نفسه، عن اجتماع غير مسبوق بين وزراء دفاع تركيا وسوريا وروسيا في العاصمة الروسية، تكرّر في 25 نيسان 2023 في المكان نفسه، مع فارق أن وزير الدفاع الإيراني انضمّ هذه المرّة إليه. ووصلت محاولات التقارب إلى ذروتها في اجتماع العاشر من أيار 2023 في موسكو، لكنّ هذه المرّة على مستوى وزراء الخارجية، والذين التقوا قبل أربعة أيام فقط من الانتخابات الرئاسية والنيابية في تركيا (14 أيار)، علماً أن إردوغان كان في حينه شديد الحرص على اللقاء مع نظيره السوري، بشار الأسد، في محاولة لتوظيف التقارب مع دمشق في الانتخابات. إلا أنه بعد انتصار إردوغان في الرئاسيات التي انعقدت دورتها الثانية في 28 أيار، بدا أن الرئيس التركي لم يَعُد بحاجة إلى تلك «الصورة»، ليُطوى الحديث عن المصالحة، وتختفي الاجتماعات حتى على مستوى موظفين من الدرجة الرابعة، إلى أن خرج السوداني، مطلع الشهر الجاري، ليتحدّث عن وساطة العراق بين تركيا وسوريا.
اللافت أن أحداً في تركيا لم يشر إلى الوساطة العراقية لا على الصعيد الرسمي ولا حتى الإعلامي
لكنّ الفترة التي سبقت إعلان الوساطة العراقية لم تكن تمضي هباءً؛ إذ إن إردوغان أعلن، في الرابع من آذار الماضي، أن تركيا «مصمّمة على إقامة حزام أمني داخل سوريا على امتداد الحدود، بعمق 30-40 كيلومتراً». كما أن وزير دفاعه، ياشار غولر، قال إن «حزب العمال الكردستاني/ حزب الاتحاد الديموقراطي يشكّل تهديداً لتركيا، ولذا قامت تركيا بعمليات عسكرية متتالية. وبعد أن يكسر الجيش التركي هذا الإرهاب، يبدأ الحديث عن مواعيد لانسحابه. ومع أن روسيا كانت تعبّر عن قلقها من هذا الإرهاب، لكنها كانت تدعم دمشق في مطالبها. وكنّا نرسل مطالبنا إلى دمشق بطرق مختلفة ومن وقت إلى آخر».
وحتى الآن، فإن شروط تركيا التي أعلنتها منذ عام 2021 لم تتغيّر، وهي:
1- اتفاق كل السوريين على دستور جديد يحمي حقّ كل الفئات السورية؛
2- وضع نظام انتخابي يمكن أن تشارك فيه كل فئات الشعب السوري؛
3- بعد إجراء هذه الانتخابات، تشكيل حكومة شرعية؛
4- إنهاء البنى الإرهابية على الحدود التركية - السورية والتي تستهدف وحدة الأراضي التركية.
وبعد إتمام كل ما تقدّم وضمان الأمن الكامل على الحدود، «يمكن لنا أن ننظر في الانسحاب إذا كان ذلك ضرورياً»، كما تقول أنقرة.
ولربما يمكن تسجيل الملاحظات التالية على مواقف إردوغان وغولر:
1- الموقف العالي السقف جاء عشية إعلان السوداني وساطته، في ما يمثل «رسالة» بأن «الثمن» الذي تريده أنقرة من المصالحة مع دمشق، في ظل الظروف الحالية بين البلدين وفي المنطقة، يحتاج إلى سنوات طويلة.
2- لا تزال تركيا توحي بأنها لا تفكّر في الانسحاب، بل في ترسيخ وتعميق احتلالها بعمق 40 كيلومتراً، وهي أيضاً المسافة التي تجعلها «تستعيد» كامل المساحة التي كانت ضمن الحدود التي رسمها البرلمان العثماني عام 1920، وتُعرف باسم حدود «الميثاق الملّي».
3- الحديث عن الدستور والانتخابات والحكومة الشرعية وغيرها، لا يمكن عدّه سوى تدخّل في الشؤون الداخلية لسوريا.
4- تعكس المواقف الأخيرة ثقة كبيرة لدى تركيا بوضعها في الشمال السوري، وخصوصاً مع انشغال روسيا بأوكرانيا وإيران بغزة.
5- أيّ رهان على نجاح أيّ وساطة حقيقية وعادلة بين أنقرة ودمشق يحتاج إلى توازن قوى بين تركيا وسوريا، وهو ما ليس متوفّراً بعد.