لندن | جاءت زيارة الرئيس الفيليبيني، فرديناند ماركوس، الثانية في غضون أشهر، إلى الولايات المتحدة، لتعزيز التحالف بين البلدَين في مواجهة الصين. ويُعد هذا التقارب الاستثنائي تتويجاً لتعاون عسكري متزايد بين واشنطن ومانيلا، وفي أعقاب سلسلة من الاتفاقات العسكرية النوعيّة للأميركيين في منطقة شرق آسيا، بما في ذلك معاهدة مع أستراليا لاستضافة غواصات ذات دفع نووي، وخطط لتبادل التقنيات الدفاعية المتقدّمة مع الهند، وتعزيز الترتيبات النووية في كوريا الجنوبية، وبرامج لنشر وحدات جديدة من مشاة البحرية الأميركية في اليابان، كما في جزيرة فرموزا (تايوان)
التقى الرئيس الفيليبيني، فرديناند ماركوس جونيور، مضيفَه الرئيس الأميركي، جو بايدن، في مستهلّ زيارة رسميّة هي الثانية له إلى الولايات المتحدة (الاثنين)، منذ أيلول الماضي. وتطرّق الزعيمان إلى أهمية تعظيم التحالف بين بلديهما، إذ أعاد بايدن تأكيد التزام إدارته الصارم بالدفاع عن مانيلا، فيما شدّداً أيضاً على دعمهما حريّة الملاحة والتحليق والحلّ السلمي للنزاعات في منطقة شرق آسيا. وبحسب الناطقة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيار، سيناقش الرئيسان، خلال زيارة ماركوس التي تستمرّ على مدى أربعة أيام، فرص التعاون الاقتصادي، وأمن منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ولا سيما الوضع في بحر الصين الجنوبي - الممرّ التجاري المهمّ، حيث تمرّ معظم تجارة الصين.
وكان التعيين الرسمي من قِبَل حكومة الفيليبين لأجزاء من بحر الصين الجنوبي، كجزء من مياهها الإقليمية، قد أثار حنق بكين التي رفضت احترام تحكيم دولي منح مانيلا السيادة على هذه المنطقة المتنازع عليها. لكن الإدارة الفيلبينية السابقة اختارت نهجاً غير تصادمي في التعامل مع جارتها، مراهنةً على وعودها بتوسيع نطاق التجارة بينهما وتكثيف الاستثمار في المرافق والصناعات الفيليبينية. لكن الولايات المتحدة تعمل راهناً على الاستفادة من ماركوس، لدفع بلاده إلى التشدّد في شأن ما وصفه وزير دفاعها، لويد أوستن، بـ«المطالب غير المشروعة للصين في بحر الفيليبين الغربي»، في إشارة إلى الوجود المتزايد للبحريّة الصينية في المياه القريبة من الفيليبين في بحر الصين الجنوبي. وسيلتقي ماركوس، خلال زيارته الطويلة، العديد من المسؤولين الأميركيين في إطار سعيه إلى استجلاب دعم أميركي في مجالات الزراعة، وأمن الطاقة، والتغيّر المناخي، والتحوّل الرقمي، والمساعدات الإنسانية والإغاثة في حالات الكوارث، وتحسين البنية التحتية والخدمات اللوجستيّة. وهذه المحادثات هي الأحدث في سلسلة من الاجتماعات رفيعة المستوى التي عقدتها الفيليبين، في الآونة الأخيرة، مع مسؤولين أميركيين وصينيين، إذ تحاول كلّ من واشنطن وبكين الحصول على ميزات استراتيجية في أرخبيل من الجزر التي لا تبعد أكثر من 200 ميل عن شواطئ جزيرة تايوان. وتمثّل الأخيرة عقدة صعبة في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، غير أن الحضور الأميركي قبالة الشواطئ الصينية يعكس سعياً مستمرّاً من دولة العالم العظمى للهيمنة على شرق آسيا عموماً بوصفه مساحة نفوذ لها، في مواجهة تعملق الصين عسكريّاً واقتصاديّاً.
وشهدت العلاقات الأميركية - الفيليبينية دفئاً لافتاً منذ تولّي ماركوس منصبه في حزيران الماضي، بعد سنوات من البرودة التي طبعت العلاقة في عهد سلفه الرئيس رودريغو دوتيرتي (يسار الوسط)، الأكثر تفهُّماً لمخاوف الصين من الحضور العسكري الأميركي المكثّف في شرق آسيا. وكما يبيّنه تلاحق الأحداث، تتّجه الفيليبين بسرعة بعيداً من بكين، على رغم تطمينات رئيسها بخصوص الاحتفاظ بعلاقات وديّة مع الصين، والحرص على عدم الانجرار إلى اصطفاف في المنافسة بين القوّتَين النوويتَين.
خلال الشهر الماضي فقط أجرى الجيش الأميركي تدريبات مشتركة بالذخيرة الحيّة مع الجيش الفيليبيني شارك فيها أكثر من 17 ألف جندي


وخلال الشهر الماضي فقط، أجرى الجيش الأميركي، بحضور لويد أوستن وماركوس، تدريبات مشتركة بالذخيرة الحيّة مع الجيش الفيلبيني، شارك فيها أكثر من 17 ألف جندي، وذلك للمرّة الأولى منذ 30 عاماً، كما سمح الرئيس الفيليبيني، بعد زيارة أجرتها نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس إلى مانيلا، في تشرين الثاني الماضي، للقوات الأميركية بالوصول الموسّع إلى أربع قواعد عسكريّة إضافية في بلاده، على الحافة الجنوبية الشرقية لبحر الصين الجنوبي، وذلك بموجب «اتفاقية التعاون الدفاعي المعزّز» (EDCA) التي يعود تاريخها إلى عام 2014، ما سيسمح عمليّاً للجيش الأميركي بتناوب وجود قوّاته إلى ما مجموعه 9 قواعد في جميع أنحاء الفيليبين، وهو ما أثار قلق بكين التي قالت إن ما يجري «يؤجّج النار» في منطقة قابلة للاشتعال. وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، (الخميس) إن «سماح الفيليبين للولايات المتحدة بالوصول إلى مزيد من القواعد العسكريّة على أراضيها، يصعّد التوتّر في المنطقة، ويعرّض السلام والاستقرار الإقليميَّين للخطر»، داعياً دول المنطقة إلى تجنّب التحوّل إلى أدوات أميركية في لعبة الحرب الباردة التي تصرّ واشنطن على استمرارها. وقد ردّت الخارجية الأميركية على الصين، بدعوتها إلى «الكفّ عن سلوكها الاستفزازي وغير الآمن»، وحذّرت من أن التعرّض للسفن أو القوّات الفيليبينية «سيستدعي تفعيل إجراءات الدفاع المشترك بين واشنطن ومانيلا».
وتعود علاقات الولايات المتحدة مع الفيليبين إلى عام 1898، عندما تنازلت مدريد عن السيطرة على مستعمرتها لواشنطن كجزء من «معاهدة باريس» التي أنهت الحرب بينهما. وقد ظلّ أرخبيل الجزر أرضاً أميركية حتى عام 1946، حين قمعت القوات الأميركية الحركة التحرريّة الفيليبينية بوحشيّة بالغة، قبل أن تقرّر واشنطن منحها الاستقلال - مبقيةً على حضورها العسكري -، بعدما قاتل الفيليبينيون جنباً إلى جنب القوات الأميركية لمواجهة الغزو الياباني خلال الحرب العالمية الثانية. واعتادت البلاد، منذ ذلك الحين، أن تكون موقعاً لاثنتين من أكبر المنشآت العسكرية الأميركية في الخارج: «قاعدة كلارك» الجوية، و«محطة خليج سوبيك» البحرية، التي كانت محوريّة في دعم المجهود الحربي الأميركي خلال الحرب على فييتنام. وقد تمّ نقل القاعدتَين إلى السيادة الفيليبينية في تسعينيات القرن العشرين، مع انتهاء الاتفاقية الموقّعة في هذا الخصوص عام 1947. لكنّ اتفاقاً أُبرم عام 1999 سمح للقوات الأميركية بإجراء مناورات مشتركة واسعة النطاق، فيما سمحت «اتفاقية التعاون الدفاعي المعزّز» بإقامةٍ دائمة للقوات الأميركية في خمس قواعد عبر الأرخبيل. وترتبط واشنطن ومانيلا أيضاً بمعاهدة دفاع مشترك وُقّعت في عام 1951، ولا تزال سارية المفعول، ما يجعلها أقدم تحالف ثنائي مستمر في المنطقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. ولطالما شكّل الوجود العسكري الأميركي مصدراً للتوتّر الداخلي في الفيليبين، حيث يعتبره كثيرون إرثاً من مخلّفات الاستعمار الوحشي لبلادهم. لكنّ الولايات المتحدة دعمت الحكم الاستبدادي الذي دام عقَدين لفرديناند ماركوس، والد الرئيس الحالي، المعروف بانتهاكات حقوق الإنسان والفساد الذي أفلس البلاد وجعل من الفيليبين «رجل آسيا المريض» وأُسقط بثورة شعبيّة في عام 1986، ولذلك فإن اندفاعة ماركوس الابن اليوم نحو الحضن الأميركي تبدو مفهومة تماماً.
ويأتي هذا التقارب الأخير في سياق سلسلة من الاتفاقات العسكرية النوعيّة للأميركيين في جميع أنحاء منطقة شرق آسيا، بعد حملة مكثّفة للتهويل من سياسات إقليمية عدوانية مزعومة للصين ضدّ محيطها. ووسعت الولايات المتحدة خياراتها الهجوميّة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ بشكل ملحوظ خلال الأشهر القليلة الماضية، ومن ذلك معاهدة مشتركة مع بريطانيا وأوستراليا لتطوير قدرة الأخيرة على استضافة غواصات ذات دفع نووي في قواعدها البحرية واقتناء البحرية الأوسترالية عدداً من تلك الغواصات من الولايات المتحدة والتعاون مع بريطانيا لبناء المزيد منها مستقبلاً، وخطط لتبادل التقنيات الدفاعية المتقدّمة مع الهند، وتعزيز الترتيبات النووية في كوريا الجنوبية، وبرامج لنشر وحدات جديدة من مشاة البحرية الأميركية في اليابان، وفي جزيرة فرموزا (تايوان). وكان الجيش الأميركي قد افتتح أيضاً قاعدة بحريّة جديدة لمشاة البحرية (المارينز) في غوام الأسبوع الماضي، وهي جزيرة ذات أهمية استراتيجية تقع إلى شرق الفيليبين ويحتلّها الأميركيون منذ القرن الماضي. ومن المتوقع أن تستضيف القاعدة ما لا يقلّ عن خمسة آلاف من جنود «المارينز».