تسابقت القوى الدولية إلى إدانة اقتحام مُثيري الشغب، المؤيّدين للرئيس البرازيلي السابق، جايير بولسونارو، لمجمّع السلطات في العاصمة برازيليا، وأكدت جميعها تأييدها لحكومة الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، والعملية الديموقراطية في الجمهورية. ووصف الرئيس الأميركي، جو بايدن، الهجوم بأنه «عمل شائن»، معرباً عن ثقته في قدرة «الديموقراطية البرازيلية على تجاوُز العنف والتّطرف». وكتب بايدن على صفحته في «تويتر» أنه «يتطلّع إلى مواصلة العمل مع لولا». وكذلك فعل رؤساء المكسيك وفنزويلا وكوبا وتشيلي وكولومبيا والأرجنتين وكوستاريكا وفرنسا، ورؤساء وزراء الهند وإيطاليا وإسبانيا، ووزراء خارجية البرتغال والمملكة المتحدة والأمين العام لـ«منظّمة الدول الأميركية» لويس ألماغرو، ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، ورئيسة البرلمان الأوروبي روبيرتا ميتسولا، الذين توافقوا جميعاً على دعم الشرعية البرازيلية التي أفرزتْها الانتخابات.وكانت الشرطة البرازيلية قد استعادت السيطرة على المجمّع، واعتقلت عدّة مئات من أنصار بولسونارو، بعدما اقتحم هؤلاء المقارّ الرمزية للسلطات الثلاث، في تكرار رديء لغزو مبنى «الكابيتول» الأميركي قبل عامَين من قِبَل أنصار الرئيس السابق، دونالد ترامب. ودعا المقتحِمون، الذين ارتدوا ألوان العلم البرازيلي وغطّى العديد منهم وجوههم بالأقنعة، الجيش إلى تنفيذ انقلاب عسكري، مطالبين بإلغاء فوز داسليفا وإرساله إلى السجن. ولم يكن أيّ من المقرّات مأهولاً وقت الاقتحام، لكن مشاهد نُقلت على وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت حرّاس المجمّع وهم يحاولون عبثاً مواجهة المتظاهرين بقنابل الصوت والرذاذ الحارق، قبل أن يتمكّن الأخيرون من اقتحام الحواجز والوصول إلى المقرّات ذات الطراز المعماري الحديث المميّز، ومن ثمّ تحطيم الأثاث والعبث بالملفّات والأوراق الرسمية التي تناثرت على الأرض. ولاحقاً، حضرت تعزيزات من قوات الشرطة، واستعادت السيطرة على المكان، فيما انسحب المحتجّون نحو الشارع الرئيس للعاصمة برازيليا، ليعمّ الهدوء بعد سدول الليل.
وتباينت تقييمات المراقبين للحادثة، إذ اعتبرها البعض دلالة إفلاس «البولسوناريسمو»، لكنها أثارت أيضاً شكوكاً حول دور الأجهزة الأمنية وقدرتها على حفظ النظام في أكبر دول أميركا الجنوبية، كما وضعت دا سيلفا الذي تولّى منصب الرئاسة قبل عشرة أيام تحت ضغوط لاتّخاذ مواقف حاسمة ضدّ المتطرفين. وسيكون وزير الدفاع الجديد، خوسيه موسيو مونتيرو، بالتحديد، في موضع التساؤل نظراً إلى معاملته المتّسمة بكثير من اللطف للمتطرّفين الذين يزعمون من دون دليل أن الاقتراع قد تمّ تزويره، ويتّهمون كبار القضاة بالتحيّز السياسي والرقابة، وينفّذون اعتصامات احتجاجية منذ أسابيع. وبينما تعهّد الرئيس البرازيلي، الذي كان وقت الاقتحام خارج العاصمة في زيارة لمدينة في ولاية ساو باولو تضرّرت من الفيضانات الأخيرة، بمعاقبة «المخرّبين الفاشيين»، تبرّأ بولسونارو ممّا جرى، مشبّهاً إيّاه بـ«تلك الأعمال التي ارتكبها اليسار في عامَي 2013 و2017». كذلك، نقلت الصحف عن فالديمار كوستا نيتو، رئيس «الحزب الليبرالي» الذي ينتمي إليه الرئيس السابق، قوله إن مثيري الشغب «لا يمثّلون» بولسونارو، الذي يحظى بتأييد قطاعات واسعة من البرازيليين المحافظين، وطالما دعَم ضمنياً أنصاره المتطرّفين الذين يقطعون بالشاحنات الطرق السريعة، وعطّلوا طريق المطار الرئيسي في البلاد، وسَمح لهم بالتجمّع والاحتجاج المستمرّ أمام قواعد الجيش خلال الأيام الأخيرة قبل نهاية ولايته.
من جهتهم، دان رموز النظام البرازيلي البارزون الواقعة. واعتبر رودريغو باتشيكو، رئيس مجلس الشيوخ، أن «هذه الأعمال المعادية للديموقراطية يجب أن تواجَه بشكل عاجل بكلّ صرامة القانون»، فيما تعهّدت روزا ويبر، رئيس قضاة المحكمة العليا، بأن «الإرهابيين سيحاكَمون على النحو اللازم، ويعاقَبون بما يستحقّون». وأكد فلافيو دينو، وزير العدل والأمن العام الجديد، بدوره، أن «هذه المحاولة السخيفة لفرض الإرادة بالقوة لن تسود». لكن أقوى الإدانات جاء من جليسي هوفمان، رئيسة حزب «العمال» الذي يتزعّمه الرئيس، والتي اتّهمت السلطات في المنطقة الاتحادية، وتحديداً المحافظ ونائبه لشؤون الأمن، بالفشل في اتّخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين المقرّات الحكومية بينما كانت تعلم بحضور الآلاف من «البولسونارويين» بالباصات إلى المنطقة. كذلك، أعلن إيبانيز روشا، حاكم برازيليا المحسوب على بولسونارو، أن سكرتيره المسؤول عن الأمن، أندرسون توريس، قد تمّ فصله من عمله، تجنّباً في ما يبدو لتحمّل المسؤولية القانونية، فيما عُلم أن المدّعي العام البرازيلي قد أصدر بالفعل مذكّرة اعتقال بحق توريس.
وتَكشف حادثة الاقتحام حجم التحدّيات التي يواجهها الرئيس اليساري، بعد أن نجح سلفه الشعبوي في بناء حركة سياسية يمينية مستدامة ذات تأييد عريض، تمزج بين البُعد الطبقي والعرقي والمحافظة الثقافية والقومية الفاشيستية الطابع. وحظي نظام بولسونارو دائماً بتأييد البرجوازيين ورجال الأعمال وكبار مالكي المصالح الزراعية، ومنسوبي الطبقة الوسطى من سكّان المناطق الحضرية ولا سيما في الجنوب الشرقي الأكثر تقدّماً، فضلاً عن الأصوليين المسيحيين المحافظين من أتباع الكنائس الإنجيلية. كما زرع أنصاره في مختلف مفاصل الدولة والجيش والشرطة، فيما يشكّل حزبه اليوم أكبر كتلة في الكونغرس البرازيلي. ولا شك في أن هذه الـ«بولسوناريسمو» لديها الآن من قوّة الاستمرار والمال والنفوذ داخل المؤسّسات السياسية والعسكرية، ما يمكّنها من إعاقة خطط العهد الجديد. على أن حادثة الأحد قد تقوّي موقف داسليفا الذي أظهر، أقلّه في تشكيل فريقه الحكومي، عزمه على قبول التحدي. ويضمّ هذا الفريق خمسة من البرازيليين السود، ووزيرَين من السكّان الأصليين، في تباين تام مع الإدارة السابقة، التي كان يهيمن عليها رجال بيض وجنرالات الجيش. كما تَجاهل الرئيس ضغوطات الأسواق المالية وسلّم حقيبة المالية إلى فرناندو حداد، الأستاذ الجامعي الماركسيّ المخضرم، وكلّف الدبلوماسي القديم، ماورو فييرا، بحقيبة الخارجيّة - التي كان تسلّمها أيضاً في عهد الرئيسة السابقة ديلما ديلما روسيف، تلميذة دا سيلفا -، والمفكّر والمحامي الأسود اللامع، سيلفيو ألميدا، بحقيبة حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من التوقّعات بخطاب تصالحي لدى تنصيبه رئيساً، إلّا أن دا سيلفا شنّ هجوماً لاذعاً على إدارة سلفه، التي قال إنها تسبّبت بـ«دمار وطني شامل»، وتحدّث عن الحاجة إلى «إعادة بناء» للدولة، واعداً بأن «أوّل تحرّك له سيكون إنقاذ 33 مليون شخص من الجوع و100 مليون شخص من الفقر». على أن الرئيس الذي أتى بأصوات الفئات الفقيرة والطبقات العاملة والأقلّيات وقطاعات من المثقّفين المعادين للفاشيستية، لا يمتلك بالطبع أوراقاً سحرية لعكس حال التردّي الاقتصادي والاجتماعي التي تعانيها البلاد تاريخياً، وتفاقمت في العقد الأخير في صورة مشاكل بنيوية، وافتقاد للعدالة الاجتماعية بشكل فادح، وافتقار لدى أجهزة الدولة إلى الكفاءة بشكل مزمن، واستشراء للفساد في قلْب المؤسّسات. وما لم يحسم الزعيم «العمّالي» معركته مع «البولسوناريين» سريعاً، فمن المحتّم أن تمرّ الأربع سنوات - فترة الرئاسة - من دون إنجاز الكثير، ولذا فإن حادثة الاقتحام قد تكون فرصة ذهبيّة وذريعة مناسبة لعمل اللازم.