منذ تنصيب بنيامين نتنياهو، وبَعده بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، زعماء «الصهيونية الدينية»، «فزّاعة» للعرب، واصلت المنظّمات الصهيونية - الأميركية، وفي مقدّمتها «جي ستريت»، فتْح صنبور الدعم المالي فوق كلّ «بالوعة» يمكن أن تسهم في إسقاط اليمين، ومنْع نتنياهو من تشكيل حكومة إسرائيلية. وعلى هذا الأساس، دخلت إلى جيْب منظّمات المجتمع المدني (سواءً العربية أو تلك اليهودية اليسارية) المنضوية ضمن ما يُسمّى «الائتلاف»، عشرات ملايين الشواكل بهدف «تحفيز مشاركة المجتمع العربي في الحياة السياسية»، والحفاظ على «صورة إسرائيل كدولة ديموقراطية». وكأحد الأمثلة على ذلك، تكفي مقارنة بسيطة لميزانية «مركز التخطيط البديل»، وهو واحد من منظّمات «الائتلاف»، في سنة لا انتخابات فيها، مع ميزانيّته في سنة جرت فيها انتخابات. ففي عام 2016، كان مدخول الجمعية مليوناً ونصف مليون شيكل، وفي عام 2019 الذي انعقدت فيه انتخابات «الكنيست» الـ22، وتمكّن العرب آنذاك من أن يصبحوا قوّة ثالثة (ثبتت ضآلة تأثيرها)، قفز المدخول إلى 9 ملايين شيكل. هكذا، بات «التخطيط البديل»، الذي من المفترض أن يعمل في مجالات المخطّطات السكنية الفلسطينية، يتلقّى الدعم المالي من أجل أن يجعل من العرب خزّاناً من احتياطي الأصوات لصالح يهود الولايات المتحدة، الذين يرغبون في أن يبقى «ائتلاف التغيير» الذي يقوده يائير لابيد على ظهْر منصور عباس، ولاحقاً (كما هو مخطّط) على ظهْر أيمن عودة - أحمد الطيبي، في سدّة الحكم.وتُعدّ جمعيات «الائتلاف» ومنظّماته وغيرها من الجهات المتلقّية للدعم، تابعة بالأساس للقوى التي تعلن صراحة استعدادها للتوصية بلابيد، أو وزير الأمن بيني غانتس، لتشكيل الحكومة. وهي عملياً التحالف الثنائي بين «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة» بزعامة عودة و«الحركة العربية للتغيير» بقيادة الطيبي، و«القائمة الموحدة» التي يتزعّمها منصور عباس، فيما لم يكن «التجمع الوطني» - أقلّه سابقاً - في منأى عن هذا المسار. على أن اللافت هو أن الموجة الأخيرة من الدعم المالي تَرافقت مع استطلاعات رأي لمراكز إسرائيلية، ركّزت على احتمال سقوط القوائم العربية الثلاث، خصوصاً أن الأخيرة لم توقّع اتفاقيات فائض أصوات بين بعضها البعض، وعلى أن نسبة التصويت لدى الناخبين العرب لن تتخطّى الـ41%. لكن المعطيات المتوافرة عادت وأظهرت أن قائمتَي «الجبهة - العربية للتغيير» و«الموحدة» قد ضَمِنتا الدخول إلى «الكنيست»، وأن الأولى قد تستحوذ على مقعد «التجمع» وتنال خمسة مقاعد، لترتفع بالتالي حظوظ لابيد - غانتس في تشكيل حكومة تناوبية، على رغم أن نتنياهو يظلّ إلى الآن الأقرب إلى ذلك.
دخلت إلى جيْب منظّمات المجتمع المدني عشرات ملايين الشواكل لتحفيز العرب على المشاركة في الحياة السياسية


هكذا، يَظهر الهدف من الترويج لسيناريو خسارة الأحزاب العربية، والذي تزامَن مع تكثيف نشْر عناوين من قَبيل «اجتماع طارئ لقيادة (القائمة الفلانية) لإفشال مخطّطات إسقاطها»، وكأنّه استعطاف فلسطينيّي الداخل، من طريق إعطائهم «إبرة تحت الجلد» مليئة بـ«محلول» بن غفير وسموتريتش ونتنياهو، بما قد يخوّفهم ويدفعهم إلى ممارسة حقهم في الاقتراع، والتصويت للقوائم العربية، على أمل أن تنجح الأخيرة في سدّ الطريق أمام وصول «الفزاعة» إلى الحُكم. لكن أيّاً يكن الفائز في انتخابات اليوم، فإن الراجح أن الحكومة المقبلة ستظلّ، كما سابقاتها، بمثابة مطحنة لمصالح الفلسطينيين وطموحاتهم، وأحياناً بمشاركة بعض هؤلاء أنفسهم، مِن مِثل «أبو رغال» والسائرين على دربه. وعلى رغم قتامة هذه الصورة، يحاول «التجمع»، بالاتّكاء على مكانة رئيس قائمته، سامي أبو شحادة، المحبوب والمُقرّب من القاعدة الشبابية بخطابه الوطني الصريح، استنهاض جمهوره ليتمكّن من اجتياز العتبة الانتخابية. ولكن ما الذي سيتبدّل إذا ما نجح في الوصول إلى البرلمان الإسرائيلي؟ وماذا الذي سيستطيع فعله هناك ممّا لم يتمكّن من القيام به على الأرض؟ الواقع أنه لا شيء مأمولاً من ذلك، فيما لا يتجاوز ما يقوم به «التجمع» اليوم حدود إعادة إنتاج خطابه القديم ليواجه به الحالة التي أنتجها عباس، وعنوانها طيّ صفحة الماضي بجراحه ونكباته، والائتلاف مع أيّ حكومة في مقابل إنجازات «سطحية»، يدفعون من جيوبهم لقاءها أصلاً.
هكذا، يناضل «التجمع»، الذي يمكن القول إن مشروعه انتهى أساساً بمجرّد سنّ قانون القومية عام 2019، من أجل تحقيق شعار «دولة لكلّ مواطنيها»، مستلهِماً على ما يبدو نماذج دول عديدة في الغرب، لم تصبح لـ«كلّ مواطنيها» إلّا بعدما جعلت من السكّان الأصليين أطلالاً تَصلح للعرض على جدران المتاحف التاريخية، أو في أقفاص الحيوانات. صحيح أن «التجمع» نجح في استثمار ما وصفه بـ«طعنة الظهر» التي تلقّاها من تفكّك «المشتركة» وانقسامها على اثنين، وتبدّى نجاحه في الالتفاف الجماهيري حوله، وفي عودة «الأبناء» - خصوصاً الشباب منهم - الذين كانوا اعترضوا على «انزياحه عن خطّه الوطني» إليه، لكن ذلك قد لا يكفي لإيصاله إلى معمل إنتاج السياسات العنصرية ضدّ الفلسطينيين، ولو أنه ذاهب لمجابهة هذه السياسات نفسها. إذ يَصعب، بعد كلّ ما فعله منصور عباس، الذي تحوّل إلى مجرّد «برغي» في هذا المعمل، تصوُّر إمكانية استعطاف الفلسطينيين بالحديث عن تمثيلهم.
منذ عام 2013، أجهز زعيم «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، على مهمّة نتنياهو السهلة، جاعلاً منه «شحاذاً» للتحالفات السياسية القاتلة. وبناءً عليه، مَن يصل إلى «الكنيست» من العرب، لن يكون أمامه سوى الانخراط في لعبة المعسكرات: فإمّا منْع نتنياهو من التأليف أو السماح له بذلك. وفي كلتا الحالتَين، لن يكون المشهد على المقلب الفلسطيني مختلفاً، وما أجساد أطفال غزة، وزواريب حارة الياسمينة، واقتحامات مخيم جنين، واستباحة الأقصى، وحصار مخيم شعفاط... إلّا دلائل على ما تَقدّم. أمّا في حال السقوط، فما هي الخيارات المتاحة أمام «التجمع»؟ هل بإمكانه استنساخ تجربة «الحركة الإسلامية الشمالية» التي حقّقت لكوادرها وأتباعها ما يشبه «الحُكم الذاتي»، وانتزعت لجماهيرها ما لم يتمكّن نواب «الكنيست» العرب من بلوغه طوال 70 عاماً - قبل أن تُحظر عام 2015 -؟ يبدو احتمال الاستنساخ مستحيلاً؛ إذ إن ما ينتظر «التجمع» في هذه الحالة، هو سيف الحظر القانوني الإسرائيلي أيضاً، على غرار ما تعرّضت له «الإسلامية الشمالية».
إزاء كلّ ما تَقدّم، يبدو الخيار الوحيد المُتاح للخروج من هذه الشرنقة اللامتناهية، والذي لا تزال جميع القوى والأحزاب العربية مصرّة على إدارة الظهر له، هو إيجاد إطار تمثيلي من خارج دائرة «الكنيست»، يتولّى الدفاع عن مصالح الفلسطينيين وهويّتهم، ويتخطّى تجربة «لجنة المتابعة» التي باتت تعبيراً عن حجم الهوّة القائمة بين الشارع ورأس الهرم.