الحرب، على الجبهة الأيديولوجية ــــ الإعلامية، ضدّ روسيا، لا تقلّ احتداماً عن تلك الدائرة على المسرح الأوكراني. فبعد بضعة أيام على اندلاع هذه الأخيرة، بدأت أجهزة الدعاية الأيديولوجية الغربية، من مراكز أبحاث ووسائل إعلام وخبراء شاشات تلفزيونية، بالترويج لسردية "هزيمة روسيا"، نتيجة للمفاجأة التي مثّلتها شراسة المقاومة الأوكرانية، وما أوقعته من خسائر في صفوف القوات المهاجِمة، وبطء التقدّم الروسي في الميدان، وحزمة العقوبات المشدّدة التي فرضها الغرب عليها، وتداعياتها "الفتّاكة" على اقتصادها وموقعها الدولي. ووفقاً للسردية إيّاها، فإن الرئيس الروسي الذي بات مستبدّاً ينفرد بالقرارات السياسية والاستراتيجية الكبرى، من دون استشارة فريقه ومساعديه، "وقع في فخٍّ" سيتيح للقوى الغربية تحويل أوكرانيا إلى ساحة استنزاف له، وتكرار السيناريو الأفغاني مع الاتحاد السوفياتي. اللافت، هو مشاركة باحثين "رصينين"، كخبير الإسلاميات أوليفييه روا، أو مثقّفين "نقديين" كجيلبير الأشقر، وعنوان إحدى مقالاته الأخيرة "فلاديمير بوتين على خطى صدام حسين"، في هذه الحملة. بطبيعة الحال، خلال الأزمات الدولية الكبرى، تتجلّى بوضوح الأيديولوجيا السائدة، والتي كثيراً ما تتطابق مع التفكير الرغبوي. وبطبيعة الحال أيضاً، تتمنّى النُخب الحاكمة في الغرب أن تصبح أوكرانيا أفغانستان جديدة بالنسبة إلى روسيا، ولكن هل بقدرتها المساهمة في ذلك وتحمّل التبعات والأثمان؟ إذا وضعنا جانباً التداعيات الخطيرة في مجالَي الطاقة والاقتصاد بالنسبة إلى أوروبا، وحصرنا اهتمامنا بالأبعاد الأمنية والاستراتيجية، هل ستتحمّل القارة العجوز الأطلسية مفاعيل انخراطها في حرب "أفغانية جديدة" على حدودها، وليس في بقعة بعيدة من جنوب العالم، وستكون حرباً طويلة الأمد بالضرورة، كالتي خيضت ضدّ السوفيات ودامت 10 سنوات؟ هل تستطيع الولايات المتحدة اعتماد مثل هذا السيناريو، في ظلّ أولويّتها الاستراتيجية المعلنة، وهي التصدّي للصعود الصيني، ونظراً إلى التراجع الكبير في قدراتها، مقارنة بتلك التي تمتّعت بها في ثمانينيات القرن الماضي، عندما قادت جبهة عالمية ضدّ السوفيات؟ تركّز السردية المعادية لروسيا على مكامن الضعف العديدة لديها، وعلى ما ظهر من أداءٍ عسكري سيّئ ونقصٍ في التخطيط والإعداد والتنظيم، خلال العملية العسكرية الجارية حالياً في أوكرانيا، لكنها تتغافل عن مكامن الضعف في الجبهة الغربية، والتي قد تكون من بين العوامل الحاسمة في التوقيت الذي اختاره الرئيس الروسي لفتح معركة كسر طوق "الناتو" حول بلاده.

أوروبا الأطلسية ليست باكستان
عندما وضع فلاديمير بوتين قوات الردع النووي الروسية في حالة تأهّب، بعد انطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا، لم يفعل ذلك للتهويل أو المزايدة، كما زعمت الأطراف الغربية. الرئيس الروسي وجّه، عبر هذا الإعلان، رسالة مباشرة لا إلى النظام الأوكراني وقواته، بل إلى هذه الأطراف التي تستخدم الأخيرين كلحمٍ رخيص في حرب بالوكالة ضدّ موسكو. هي لم تتردّد في مدّهم بأحدث الصواريخ المضادّة للدروع، كصواريخ "جافلين" و"لاو"، أو بالمروحيات والطائرات كـ"ستينغر"، لتكبيد القوات الروسية أكبر قدرٍ ممكن من الخسائر . ربما يفسّر توفّر هذه الأسلحة المتطوّرة لدى القوات الأوكرانية التقدّم البطيء، ولكن المستمرّ، للجيش الروسي في الميدان، في حربٍ تُخاض على عدّة جبهات في الآن نفسه. غير أن المُدن الرئيسية في الشرق الأوكراني، وفي مقدّمتها العاصمة كييف، ستسقط بالنتيجة، وسينهار النظام الحاكم فيها.
المُدن الرئيسيّة في الشرق الأوكراني، وفي مقدّمتها العاصمة كييف، ستسقط بالنتيجة

يعتقد أنصار خيار استنزاف روسيا أن المطلوب هو تشكيل حكومة أوكرانية في المنفى، على الأرجح في بولندا، وصيرورة هذا البلد، ومعه رومانيا، قواعد خلفية للمقاتلين الأوكرانيين المناهضين للروس، كما كانت باكستان قاعدة آمنة للمجاهدين الأفغان ضدّ السوفيات. دانييل دوبتريس، الخبير المتخصّص في الشؤون العسكرية في موقع "ديفنس بريوريتيز"، رأى في مقال بعنوان "يجب أن تفكّر واشنطن مرّتين قبل تسليح تمرّدٍ أوكراني"، أن تعريف روسيا للصراع في أوكرانيا على أنه وجودي، يعني أنها مستعدّة لتحمّل أكلاف باهظة لحسمه لمصلحتها، على عكس القوى الغربية. علاوة على ذلك، فإن هذا النمط من حروب التمرّد، كحرب أفغانستان مثلاً، يتطلّب سنين طويلة لينجح في تحقيق أهدافه، "إن نجح"، وفقاً لدوبتريس. الحرب ضدّ السوفيات استمرّت 10 سنوات، وضدّ الأميركيين… 20 سنة. هذا إذا لم نتحدّث عن الأثمان الهائلة التي دفعها المدنيّون في مثل هذه الحروب. غير أن الأخطر، بالنسبة إلى الخبير في الشؤون العسكرية، هو إمكانية إقدام الروس، في خضمّ حرب الاستنزاف الطويلة المفترضة، على قصف عمليات الإمداد بالسلاح التي ينظّمها "الناتو"، انطلاقاً من بولندا ورومانيا، أو حتى باستهداف قواعد خلفية للأوكرانيين في هذين البلدين. سيفضي ذلك إلى صدام مباشر بين روسيا والحلف، قد يتدحرج نحو سيناريوات يرغب الجميع حتى الآن في تجنّبها. ما لا يتطرّق إليه دوبتريس هو "قدرة الإيذاء" الروسية في قلب أوروبا، على سبيل المثال لا الحصر، في البلقان، حيث تحتدم التناقضات في البوسنة وفي كوسوفو، بين التيارات القومية الصربية والسلطات.

حربٌ مع روسيا واحتواءٌ للصين؟
على الرغم من العداء الشديد الذي أبداه فريق جو بايدن تجاه روسيا، منذ وصوله إلى مواقع القرار، فإنه حدّد الصين على أنها "التهديد النظامي الرئيسي للنظام الدولي القائم، نتيجة لقدرتها على استخدام قوتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والمالية لتغيير طبيعته"، كما ورد في التوجيهات المؤقّتة لاستراتيجية الأمن القومي، الصادرة عنه في آذار 2021. من المحتمل أن هذا الفريق اعتقد بإمكانية المضيّ بسياسة احتواء نشطة ضدّ الصين، كتشكيل أحلاف من نوع "أوكوس" و"كواد"، وزيادة الانتشار العسكري الأميركي، البحري أساساً، في جوارها، والاستمرار في السعي لاستكمال تطويق روسيا، من خلال التسلّل إلى أوكرانيا، عبر نقل القدرات العسكرية النوعية إليها، من دون الإعلان رسمياً عن انضمامها إلى "الناتو". المواجهة مع قوة كالصين، منافِسة على جميع المستويات للولايات المتحدة، أي أنّها تحدٍّ أخطر نوعياً من ذلك الذي مثّله الاتحاد السوفياتي في الماضي، تتطلّب منها تعبئةً استثنائية لمواردها وقدراتها، لا تتّسق مع التورّط في حرب استنزاف طويلة لروسيا في أوكرانيا، قد تتطوّر إلى حرب كبرى مفتوحة. الأخذ بالخيار الثاني، يعني التسريع بالخسارة في مقابل الصين.