وجدت إسرائيل "خلاصها" من المعضلة الاستراتيجية التي شخّصتها منذ بدء الأزمة الروسية - الغربية في أوكرانيا، عبر إلباس نفسها لبوس الوسيط، وإن كانت تدرك مسبقاً أن لا جدوى من وساطتها. ذلك أن أسباب هذه الحرب وأهدافها وأدواتها وربّما أيضاً ما قد تصل إليه إن تجاوزت حدّها من سيناريوات متطرفة، أعلى مستوى وأوسع نطاقاً بما لا يقاس، مقارنةً بكيان محدود القدرة نسبياً، ومتواضع الحضور على المسرح الدولي، حيث للصغار كإسرائيل حيّز محدود جداً للتأثير. وعلى رغم أن "الوساطة" صفريّة النتائج، كما اتّضح منذ انطلاقها، إلّا أنها حقّقت الفائدة المرجوّة إسرائيلياً منها، عبر إزاحة تل أبيب، مؤقتاً - لا نهائياً كما تأمل الأخيرة - عن منصّة الاتهام بأنها تقف إلى "الجانب الخطأ من التاريخ"، إذ كانت إسرائيل مطالَبة، قبل "الوساطة"، باتخاذ موقف يتماشى مع أقرانها وحلفائها بقيادة الولايات المتحدة، كما كانت الانتقادات تَصدر من هنا وهناك، وحتى داخل الكيان العبري نفسه، إزاء الموقف الذي يكتفي حتى الآن ببيان إدانة "بلا أسنان"، لا يتساوق أبداً مع الموقف الغربي. أما في أعقاب "الوساطة"، فقد باتت إسرائيل تملك وسيلة قتالية دفاعية تأمل أن تُسكت من خلالها حلفاءها، ومطالبتهم لها بموقف واضح يتساوق مع هويتها وتموضعها الدولي إلى جانب الغرب والولايات المتحدة؛ إذ يستدعي كونك وسيطاً "بروفايل" معتدلاً لناحية الإدانات والتعليقات واتخاذ المواقف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك.
الظاهر أن الإدارة الأميركية تماشت مع «الوساطة» وروّجت لها لدى الحلفاء

والظاهر أن الإدارة الأميركية، التي كانت حتى الأمس مستاءة من دون ضجيج من الموقف الإسرائيلي وإن كانت تتفهّم "أسبابه الموجبة"، تماشت مع "الوساطة" وروّجت لها لدى الحلفاء، على اعتبار أن إسرائيل استثناء من القاعدة، وما يجري على غيرها لا يجري عليها، خاصة إن كانت مصلحتها تُلزمها بأن لا تُغضب الجانب الروسي، ربطاً بقدرته على الحدّ من مناوراتها العسكرية في الإقليم، بما لا يتساوق مع أمنها، بل بما يهدّده استراتيجياً. ومن ناحية واشنطن، فإن "الوساطة" التي تُخرج تل أبيب من دائرة الاتهام، تكفي كي ترضى عنها وتسوّقها. مع ذلك، يبدو هذا المفعول مؤقّتاً، أو أنه في حدّ أدنى مشبع باللايقين إزاء ما يمكن أن يكون عليه لاحقاً، خاصة مع ترجيح تبدّل الظروف تبعاً لمجريات الحرب نفسها، التي يَظهر أن الجانب الروسي بدأها كي يُنهيها وفقاً لما خطّط له. على المقلب الروسي، يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين لا يمانع أن يستقبل رئيس حكومة دولة هي جزء لا يتجزّأ من المحور الأميركي، وإن كان عنوان زيارته هو "الوساطة"، إذ إنه يدرك، وكذلك ضيفه وكلّ من "بارك" الزيارة، أن "الوساطة" لن تجدي نفعاً، وأن محرّكها الأساسي هو طلب إسرائيل الرضى الروسي، والذي يدفعها إلى مواصلة المراوغة، من دون الإدانة الفعلية للأفعال الروسية. إلّا أن هذه الإدانة لا يُستبعد أن تصبح مطلوبة من تل أبيب في المرحلة المقبلة من المواجهة، في حال التصعيد الإضافي في وتيرة الحرب.
لكن ما الذي أظهرته "الوساطة" من خارج صندوق الأهداف الضيّقة لتل أبيب؟ وفقاً للإعلام العبري، وهو ما تبلور بعد جلسات وتسريبات وأحاديث جانبية مع بينت وأفراد الوفد المرافق له خلال زيارته الأخيرة لموسكو وبرلين (يديعوت أحرونوت)، فإن بوتين ظهر أمام بينت ومَن رافقه، خلافاً لكلّ الحرب النفسية التي يقودها الإعلام الغربي، هادئاً ومتّزناً وغير غاضب أو مصاب بجنون العظمة، كما أنه ذو صلة تماماً بالواقع ويدرك جيداً ما قام به وما يريده، بل وإنه لن يتنازل عن الأهداف المعلَنة للحرب التي بدأها. وفي ظلّ هذا الحزم، كيف لـ"الوساطة" الإسرائيلية أن تستمرّ؟ يصحّ السؤال إن كانت "الوساطة" تهدف إلى إرساء تسويات بين المتحاربين أو تخفيف التصعيد العسكري أو طلب تقليص المطالب و"النزول عن الشجرة"، لكن أن تكون مخصّصة لتخفيف الضغط عن تل أبيب وتمكينها من الاستمرار في عدم إغضاب موسكو، فلها أن تستمرّ، وهو ما يفسّر إعادة إحيائها يومياً عبر مواقف وتصريحات رسمية تريد فرضها على الرأي العام الداخلي والخارجي.