بحلول الخريف المقبل، ستختار ألمانيا، للمرّة الأولى منذ 16 عاماً، حكومةً لا تترأّسها أنجيلا ميركل؛ إذ تختتم المستشارة مسيرتها التي بدأتها نائبةً في عام 1989، لترتقي في سلّم المسؤوليات السياسية تباعاً، وصولاً إلى تزعُّمها «الحزب الديموقراطي المسيحي»، عام 2000، ثم المستشارية الألمانية في عام 2005، كأوّل امرأة تتولّى أرفع منصب في الدولة. ولكن، بحلول أيلول المقبل، تصبح ألمانيا، ومن خلفها أوروبا، من دون «السيدة الحديدية» التي اعتادت أن تكون صاحبة الكلمة الأخيرة في كلّ مشكلة تواجه بلادها، كما التكتّل الأوروبي الأوسع. ولا شكّ في أن غياب المستشارة سيشكّل حدثاً مفصليّاً، في ظلّ الخشية الألمانية والأوروبية مِن العجز عن ملء الفراغ الذي ستخلّفه، أو ضحالة كفاءة مَن سيخلفها في المحافظة على تماسك التكتُّل الأوروبي. هذه المخاوف شغلت الصحافة والمحلّلين في السنوات الثلاث الأخيرة، تاريخ إعلان ميركل نيّتها التنحّي عن منصبها بحلول عام 2021. ويومها، أشير إلى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بصفته قائداً محتملاً، لخلافة ميركل. فالرئيس الشاب الذي انتصر في انتخابات عام 2017 في مواجهة مرشّحة اليمين المتطرّف مارين لوبن، كان قد شكّل حالة «وسطية» في الأوساط السياسية، لكونه لا ينتمي إلى معسكرَيْ «اليمين» و«اليسار». ومع بدء الحديث عن اختفاء شخصية ميركل، برز ماكرون كنجم جديد في أفق السياسة الأوروبية، بعدما أحسن استغلال الظروف التي أحاطت بالاتحاد في ذلك الحين. وللمُفارقة، لعب الحظّ دوره نظراً إلى السياسة التي اتبعها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، تجاه حلفاء بلاده الأوروبيين، ما دفع الرئيس الفرنسي إلى تقديم اقتراحات من قبيل «الأمن الذاتي» وغيره من طروحات أثبتت عدم نجاعتها، بالنظر إلى اعتماد أوروبا الكلّي على الحليفة الأميركية.أراد ماكرون الظهور بمظهر مَن يكافح لاستعادة الأمجاد الأوروبية. وعلى رغم الأزمة الداخلية التي كان يواجهها في ظلّ موجة احتجاجات «السترات الصفر»، إلّا أن آراء المحللين حول أدائه وأهدافه انقسمت؛ فمنهم من قرأ طروحات الرئيس الفرنسي الأوروبية بصفتها وسيلة للتخلّص، أوّلاً، من أزماته الداخلية، ولتثبيت زعامةٍ ما على مستوى القارة العجوز، ثانياً. ومن هنا، أشارت إليه مجلة «تايم» الأميركية، عام 2018، باعتباره «القائد المستقبلي لأوروبا». على هذه الخلفية، هناك مَن «آمن» بنجاح سياسة ماكرون، ومن هؤلاء الكاتب جوزيف دي ويك، الذي نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، أخيراً، مقتطفات من كتابه الذي يحمل عنوان: «إيمانويل ماكرون: الرئيس الثوري»، والذي يتحدّث فيه عن «وسطية» الرئيس الفرنسي وإمكانية تكراره نجاحات ميركل. ويعتبر الكاتب أن ماكرون يواجه اختباراً في الانتخابات الفرنسية المقرّرة أوائل العام المقبل؛ «فإذا فشل، يكون مثل نجمٍ لمع واختفى، أما إذا فاز، فستكون باريس قد وجدت رئيساً يمكنها التعايش معه لمدّة أطول، وستكون بروكسل قد وجدت النموذج الأفضل الذي يؤكد أن الرهان على أوروبا قد ينجح». ويوضح أن «فكر» ماكرون السياسي يعتمد على ثلاث ركائز، وهي: تحرير الاقتصاد الفرنسي، زيادة الاستثمار في التعليم من أجل استعادة الحراك الاجتماعي، وأخيراً حاجة الدول الأوروبية إلى العمل معاً للدفاع عن مصالحها وترويض الرأسمالية العالمية. وهنا، يشير إلى أن ماكرون نجح في وضع لمسة جديدة على التكتّل الأوروبي «أكثر فرنسية» على صعيد السياستَيْن الخارجية والتجارية. في الوقت نفسه، يعترف دي ويك بأن الاتحاد «لا يزال على بعد سنوات ضوئية من كونه لاعباً أساسياً على الساحة الجيوسياسية»، معتبراً أن «حزمة بروكسل للجيل القادم، والتي تبلغ 900 مليار دولار، تبشّر بدرجة من التكامل أعظم ممّا كان يُعتقد قبل عام واحد فقط».
وإذا كان ثمة مَن يعتقد أن ماكرون سينجح في مهمته المنتظرة، إلا أنه «سيفشل من دون ميركل أو شريك قوي محتمل في برلين ومهتم بالقضايا الأوروبية»؛ إذ إن ماكرون شخصية «أكثر إثارةً للانقسام، ولديه أفكار أكثر طموحاً، لكنها أيضاً مثيرة للجدل، حول إصلاح الاتحاد الأوروبي»، وفق مقال نشر في موقع «بوليتكو» الأميركي بداية العام الجاري. صحيح أن ماكرون، وبخلاف أسلافه، استطاع إعادة فرنسا إلى واجهة القيادة في أوروبا من خلال الاستفادة من التقلّبات الجيوسياسية واستقطاب ميركل للعمل معاً، لكن رحيل المستشارة واقتراب الانتخابات الفرنسية التي تدل الإشارات، حتى الآن، على دور صاعد لليمين المتطرف فيها، ينبئان بمصير مجهول ينتظر التكتل.