وهكذا، صدرَ قرار طلب اعتقال من قبل المحكمة الجنائيّة الدوليّة (التي لها من الحيادية والنزاهة ما لدى محكمة الحريري الإسرائيليّة المنشأ والغاية). ساوت المحكمة بين المجرم والضحيّة، وطالبت باعتقال ثلاثة من قادة «حماس» مقابل مسؤولَين إسرائيليَّين اثنَين فقط. والمحكمة لم تلحظ وجود احتلال ولا وجود حرب إبادة. اكتفت بتقنيّات جرائم حرب، ورمتها على الشعب الواقع تحت الاحتلال كما على المحتلّ، وإن بتحفّظ أكثر. ووجد إعلام سوروس بيننا فرصة ذهبيّة، ونشر موقع «ميغافون» صورة تجمع ثلاثة قادة من «حماس» مع نتنياهو ووزير دفاعه. هكذا يزيّفون الوعي العربي كي يكره العرب (هذا لو تأثّروا بحسب الخطة الخبيثة بإعلام «الناتو» وسوروس) قادة المقاومة كما يكرهون قادة العدوّ. يريدون شيطنة قادة المقاومة لأنهم يزعجون العدوّ كما يزعجون حلف الإبادة الغربي. السنوار هو عنوان المرحلة. يقول عنه المؤرّخ الفلسطيني وليد الخالدي (الذي عرف عن كثب قادة المقاومة الفلسطينيّة من الحاج أمين الحسيني حتى ياسر عرفات) أن اسمه سيخلَّد أكثر من كلّ أعدائه الإسرائيليّين ومعاصريه العرب، وأنه كقائد فدائي سيحتلّ موقعاً فريداً وفي الصدارة، متفوّقاً على كل سابقيه في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. ويضيف الخالدي، وعن حق، أنه في حسابات الحروب غير المتوازية سيوضع في مقام مُجاوِر للجنرال جياب. ويقول أيضاً أنه صرف سنوات سجنه في التفكير وحده بمصير شعبه في غزة.
لا حاجة إلى انتظار كتب التاريخ. يحيى السنوار كسب لنفسه موقع الصدارة في التاريخ الوطني الفلسطيني والحركة العربيّة المعادية للصهيونيّة. بات هو الرمز الأوّل للقضيّة حتى إن استُشهد اليوم أو غداً أو بعد غد. السنوار، بشخصيّته وقيادته، قطع مرحلة لن تتكرّر: مرحلة التهريج والهزل التي جسّدها ياسر عرفات بشخصه وقيادته وصحبه. السنوار هو نقيض عرفات، بقدر ما لم يكن عرفات نقيض الشقيري الذي سبقه (سبقه لمدة وجيزة في قيادة منظمة التحرير يحيى حمّودة). السنوار اليوم -من حيث الصعود- هو مثل عرفات بعد عام 1967 وبعد معركة الكرامة (طبعاً، على عادة عرفات في تاريخه الطويل فإنّ دور منظمة التحرير في المعركة المذكورة خضع للمبالغات والعنتريّات المعهودة، وللأكاذيب). كل مرحلة في العمل الوطني الفلسطيني عكست المناخ العربي العام: مرحلة الحاج أمين لم تأخذ في الحسبان المخاطر المحدقة وعوَّلت على الأنظمة العربيّة وجيوشها لإنقاذ فلسطين. مرحلة عرفات عكست مناخ الصراعات العربيّة والحزازيات بين الزعماء، وهو دخل فيها بقوّة وبرع في القفز والبهلوانيّة، إلا أنه بقي أميناً حتى اجتياح الكويت، على الانصياع للمشيئة السعوديّة (الوثائق الأميركيّة المُفرج عنها لا تدع مجالاً للشك أنّ السعودية كانت تتدخّل مباشرة بإيعاز أميركي من أجل فرض نهج «الاعتدال» على عرفات، وأغدقت عليه الأموال من أجل ذلك). نجح عرفات في رفع «القرار الفلسطيني المستقل» فقط بوجه من اعترض في الحكومات والمنظمات على نهجه، موحياً أن نهج التسوية هو وحده ينبع من القرار الفلسطيني المستقلّ.
السنوار نتاج مرحلة أخرى لا مثيل لها. عاصر مرحلة الخيبات والهزائم التي قادت إلى أوسلو. تصوَّر كيف تتكوّن سياسيّاً وأنت تشاهد بيل كلينتون وهو يُعدِّل ميثاق منظمة التحرير ويعدُّ عرفات له مسرحيّة التعديل من قبل المجلس الوطني الفلسطيني، ويصبح ميثاق منظمة التحرير أشبه بوثيقة استسلام غير مقنّعة. تصوّر من وُلد عزيزاً وكريماً في الشعب الفلسطيني وهو يشاهد عرفات وهو ينبذ نضال العقود، لا بل يسبغ صفة الإرهاب عليه؟ تصوَّر وأنت ترى أعداء شعبك التاريخيّين وهم يمازحون قادة المقاومة الفلسطينيّة، ويتبادلون المعلومات معه حول نوايا وخطط المقاومين الحقيقيّين؟ تخيّل وأنت ترى عنوان المرحلة هو «التنسيق الأمني» بين سلطة أوسلو العميلة وجيش العدوّ واستخباراته.
السنوار ورفاقه عايشوا القتل والتعذيب الذي مارسته أجهزة سلطة رام الله على المناضلين والمقاومين من «حماس» و«الشعبية» و«الجهاد الإسلامي». أدرك السنوار أن أولويّة أجندة أوسلو كمنت في حماية الاحتلال الإسرائيلي من غضبة الشعب الفلسطيني. تمويل السلطة (من الغرب والخليج) قائم على جملة من الممارسات والمهمّات التي يوكلها الاحتلال إليها، وتحاسبها أميركا إذا ما هي خالفت الأوامر. وقع عرفات في الأسر في آخر سنواته واستعان بإيران للعودة إلى التسليح والحفاظ على خيار المقاومة بعد أن كان قد سلّم ميثاق منظمة التحرير إلى الإدارة الأميركيّة كي تصحّح فيه كما تشاء، وبعد أن كان قد نبذ وأدان «الإرهاب»، أي إنه قَبِلَ وصم كل نضال الشعب الفلسطيني بالإرهاب مقابل شرف الجلوس مع المسؤولين الأميركيّين.
ارتقاء السنوار كان نتيجة حسم الصراع أو الخلاف في الحركة بين جناحَين: جناح يريد أن يربط مصير الحركة (ومصير القضيّة الفلسطينيّة) بمخطّط «الإخوان» -تركيا- قطر في العالم العربي، وجناح أقرب إلى إيران يجعل من تحرير فلسطين أولويّة الأولويّات


السنوار لم يكن الوحيد الذي عاش في سجون العدوّ. كُثُر مرّوا في سجون العدوّ، بمن فيهم أسوأ النماذج الفلسطينيّة مثل محمد دحلان وجبريل الرجّوب (كان بعض القادة الفلسطينيّين يحذّرون من ظاهرة إطلاق العدوّ لمساجين فلسطينيّين ورميهم في لبنان، مخافة تسريب عملاء بينهم). السنوار درس العبريّة ومارس مقاطعة مخاطبة الإسرائيليّين حتى في السجن. هو رجل فولاذي ذو شكيمة من صخر. «حماس» على أيّامه ليست كما كانت من قبل. جلس في زنزانته يفكّر في طرق خلاص شعبه. نظّف صفوف «حماس» وطهّر غزة من العملاء والمخبرين. هو القائد الفلسطيني الوحيد (بحسب معرفتي) الذي امتشق مسدساً بكاتم للصوت، لأنه كان يستعمل مسدّسه، ولم يحمله للزينة أو الاستعراض والبهرجة. كل المقالات عن السنوار في الغرب تتحدّث عن مطاردته وقتله للعملاء والمخبرين والجواسيس والمجرمين في غزة، فيما هذا هو السجلّ الذي رفعه بين شعبه، وهو الذي حمى المقاومة في غزة بفضله. لا يشينه أبداً أنه طارد وعاقب العملاء والمخبرين، بل يشرّفه عند بني قومه.
«حماس» ابتعدت عن قيادة قطر، وارتقاء السنوار كان نتيجة حسم الصراع أو الخلاف في الحركة بين جناحَين: جناح يريد أن يربط مصير الحركة (ومصير القضيّة الفلسطينيّة) بمخطّط «الإخوان»- تركيا- قطر في العالم العربي، وجناح أقرب إلى إيران يجعل من تحرير فلسطين أولويّة الأولويّات والعودة إلى الكفاح المسلّح، إنما بصورة جديدة تختلف عن الماضي. لم يعد الكفاح المسلّح في زمن السنوار زرع عبوات في مطاعم إسرائيليّة أو أسواق. الرجل درس العدوّ بعناية ودقّة وقرأ عنه. وهذه الظاهرة تجمع بين نصرالله والسنوار: الرجلان هما بحقّ خبراء في الشأن الإسرائيلي. لم يكن قادة الفصائل الفلسطينيّة خبراء في الشأن الإسرائيلي. عرفات اعتمد على معرفة محمود عبّاس الذي أنكر المحرقة (كان المؤرّخ المُعتمد عند حركة «فتح») كي يفهم المجتمع والدولة في إسرائيل. قادة التنظيمات الأخرى اهتموا بمعرفة الإدارة الأميركيّة أكثر من معرفة الوضع الإسرائيلي. كما أن ارتباط المنظمات الفلسطينيّة («الشعبيّة» و«الديموقراطيّة» و«النضال الشعبي» و«القيادة العامّة» و«الصاعقة» و«جبهة التحرير العربيّة» و«فتح- المجلس الثوري») بمختلف الأنظمة العربيّة وأجنداتها (والمهمّات التي كانت توكل إليها من حكّام تلك الأنظمة) صرفها عن التركيز على إسرائيل. حتى تنظيم وديع حداد «الجبهة الشعبيّة- العمليات الخارجيّة»، ارتضى أن يقوم بعمليّة «أوبك» لحساب القذّافي. و«حماس» خالد مشعل دخلت في الحرب السوريّة واعتنقت في الكثير من قطاعاته برنامج الفتنة المذهبيّة التي أشعلها التحالف السعودي- الإماراتي- الإسرائيلي- الأميركي بغرض واحد: تقويض دعائم شعبيّة حركات المقاومة في العالم العربي.
نحكم على السنوار اليوم من دون أن نعرف الكثير عنه وعن حياته الشخصيّة. هو (مثل عرفات في ذلك) زاهد مترفّع عن مباهج الحياة لكنه، خلافاً لعرفات، لا يستعمل الفساد وسيلة للسيطرة وفرض النفوذ وحسم الصراعات في داخل التنظيم. الانخراط في المقاومة في هذه الألفيّة لم يعد كما كان في الماضي: التجسّس الإلكتروني يتيح للعدوّ فرصة أكبر من قبل لرصد وملاحقة قيادات المقاومة لقتلهم. الذي ينخرط في المقاومة اليوم يضمن أن فرص بقائه على قيد الحياة تقلّ عن خمسين في المئة. قادة المقاومة اليوم يعلمون أن خطأ واحداً في البرنامج أو المسار اليومي يتيح للعدوّ استهدافهم، كما فعلوا في حالة صالح العاروري.
ستة أشهر من القتال وليس من أثر لقادة المقاومة. صحيح، العدوّ يزهو باستمرار بجرائم قتله ضد أشخاص يصفهم بالقياديّين مع أننا لم نسمع بهم من قبل. هذه مثل إعلانات الجيش الأميركي الدوريّة عن اغتيال «قادة بارزين» في «القاعدة» و«داعش» من دون أن يعلم أحد بأسماء هؤلاء. كمٌّ هائل من القادة البارزين الذين يمدّون الاحتلال الأميركي بأسباب بقائه الأبديّة. كان لـ«القاعدة» قائد واحد، لكن الجيش الأميركي يريدنا أن نصدّق أن لـ«القاعدة» اليوم آلاف مؤلّفة من القادة.
أسلوب السنوار الناجح يعتمد على عناصر عدة:
أوّلاً، السرّية التامّة في التجنيد والتنظيم والعمل. ليس هناك حاجة إلى التباهي أو التبجّح على طريقة منظمة التحرير. ليس من انفلاش واستعراض وشكّ أعلام التنظيم على أبنية سكنيّة ومكتبيّة. لا حاجة إلى المكاتب. كما أن طريقة التنظيم لا تدع كل الأعضاء يعرفون عن أعمال باقي الأفراد. هذا غير زمن منظمة التحرير. هناك قائد عسكري مناضل في منظمة فلسطينية اغتيل في أوروبا في الثمانينيات وكان يخبر أصدقاءه من خارج التنظيم بأماكن أسفاره. ليس من أسفار للسنوار وحسن نصرالله. هما ارتضيا بعيشة تحت الأرض من أجل الحفاظ على حياة التنظيمين. النجاح في الحفاظ على السرّية في أكثر بقعة مكتظّة في العالم يحتاج إلى براعة ودهاء، وخصوصاً أن عناصر «فتح» في أماكن وجودها ليست إلا أعين وآذان العدوّ بحكم التنسيق الأمني (الذي لم يتوقّف للحظة أثناء حرب الإبادة على غزة. وتوقّف التنسيق الأمني يعني توقّف التمويل، والتمويل هو الهدف الأسمى لمنظمة التحرير الفلسطينيّة).
ثانياً، قدرات تجسّسيّة هائلة. «طوفان الأقصى» هو، في التخطيط والتحضير، أكثر مهارة من حرب إسرائيل في الـ 1967 وإن كان وازاها في عنصر المباغتة. في عام 1967، المباغتة لم تكن مفاجِئة، لولا استهتار الأنظمة التي لم تتحضّر خوفاً من المبادرة بالحرب، لأن أميركا خدعتها بالقول إنها ستُحاسب الذي يبادر.
ثالثاً، التركيز الكلّي على مشروع المقاومة ونبذ كل الصغائر والحزازيات.
رابعاً، القيادة من الأمام. السنوار قدوة في نمط حياته وفي انخراطه الكلّي بالمقاومة منذ أن تحرّر من الأسر.
خامساً، أسلوب مباشر وصريح في الكلام. ليس هناك من هتافات فارغة ومزاعم بطوليّة.
سادساً، هذه الإرادة الحديديّة التي لا تلين أو تضعف رغم حرب الإبادة حوله. قدراته التفاوضيّة أثبتت ذلك. هو رجل في القتال وفي المفاوضات صلب ولا يتنازل. في هذا وغير ذلك هو بالفعل عكس ياسر عرفات. لهذا تهابه إسرائيل وتتحالف كل أطراف محور الإبادة الغربي ضدّه. ماكرون اقترح في أوّل الحرب تشكيل جبهة عالميّة للقضاء عليه. مُحال.

* كاتب عربي - حسابه على «اكس»
asadabukhalil@