في مدينة شينزين على حدود هونغ كونغ عام 1987، أنشأ رن زتشنغفي، وهو ضابط متقاعد في جيش التحرير الشعبي الصيني ــ قسم الهندسة، شركة «هواوي» الصينية. في بداية عملها، ركّزت الشركة على عمليات إعادة البيع، أي شراء قطع وأجهزة اتصالات من الخارج لبيعها داخل الصين.
بدأ الخوف من هواوي يتجلى في آذار/ مارس من العام الماضي(أ ف ب )

إلا أن الشركة أخذت عهداً على نفسها، منذ مراحل عملها الأولى، بالاعتماد على القدرة والخبرات التي تملكها لصنع تلك المعدات بنفسها، وبالتالي عدم الرضوخ للوضع القائم. في المقابل، وفيما كان العالم كله يعمل على مدار الساعة لوضع شبكات اتصال من نوع GSM، لتلبية الطلب المتزايد على خدمة الهاتف الخليوي في حينه، كانت شركة «كوالكم» الأميركية تسابق الزمن لتسجيل براءات اختراع بلغ عددها 16 ألفاً، ومنها 6 آلاف خاصة بالاتصالات اللاسلكية تحت خانة تكنولوجيا الـCDMA (بالنسبة إلى المستخدمين عرفت هذه التكنولوجيا بالجيل الثالث بداية والجيل الرابع لاحقاً). الأخيرة كانت تتيح نقل الداتا بسرعة كبيرة خلافاً لـGSM. وبعد ظهور أول هاتف ذكي لشركة «أبل»، ارتفع الطلب على تكنولوجيا نقل الداتا أو الإنترنت عبر الهاتف ارتفاعاً جنونيّاً، إذ أراد المستخدمون الحصول على تكنولوجيا تتيح لهم نقل البيانات لاسلكياً بسرعة أكبر. لم يطل الأمر، أخرجت «كوالكم» من عباءتها شريحة اتصالات لاسلكية، مثلت قفزة نوعية في سرعة نقل البيانات. وكان واضحاً أن «كوالكم» الأميركية تتّجه للاستحواذ على هذه السوق العالمية الكبيرة، خصوصاً بعدما قرر أعضاء منظمة 3GPPP «مشروع شراكة الجيل الثالث» أن امتياز وحقوق بيع شريحة الاتصالات للـ3G من أحقية «كوالكم» (كل شركة هاتف تستخدم الشريحة الجديدة عليها دفع المال لـ«كوالكم»)، وهكذا سيطرت تكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية من «كوالكم» على العالم، وأصبحت موجودة تقريباً في كل الأجهزة.

عندما طرقت «كوالكم» أبواب الصين للبدء ببيع تكنولوجيا اتصالاتها اللاسلكية هناك، واجهت ثلاث عقبات، إذ طلبت الصين:
- أن تكون قادرة على نشر هواتف تعمل بخدمَتي GSM و CDMA.
- رفضت دفع رسوم الامتياز مقابل تكنولوجيا CDMA التي تمتلكها «كوالكم».
- طلبت أسرار صناعة رقاقات «كوالكم» الإلكترونية.
غير أن المفاوضات التي كانت تجريها الصين للدخول إلى جنة منظمة التجارة العالمية، منعتها من وضع تلك القيود على «كوالكم». وهكذا، دخلت الشركة الأميركية إلى السوق الصينية، ما جعلها الرائدة في مجال تكنولوجيا الاتصال اللاسلكي هناك. ومنذ نشر الصين لشبكة الـ 3G عام 2008 وحتى العام الماضي، وصلت أرباح «كوالكم» من الصين إلى مليارات الدولارات.

بداية الصراع
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، اجتمع أعضاء منظمة 3GPPP «مشروع شراكة الجيل الثالث» في نيفادا، لاختيار التكنولوجيا الأفضل لاستخدامها في تطبيق الـ5G: تقنية الـpolar coding من قبل «هواوي» أو low-density parity check من قبل «كوالكم». ومن هنا بدأ الصراع، إذ إن هدف الاجتماع في الواقع، كان تحديد «اسم» المسيطر على تكنولوجيا الجيل الخامس للسنوات المقبلة. في المحصّلة، أقرّت المنظمة بأنّ التقنيتين قادرتان على القيام بالمهمّة. وفيما كانت الصين تجهز بنيتها التحتية للبدء بتشغيل منظومة الـ«5G»، كانت «هواوي» تسابق الزمن لتسجيل براءات اختراعها في تقنية الـpolar coding.
اليوم، أصبحت الصين الدولة الأقرب إلى تشغيل منظومة الـ «5G» خلال العام المقبل، فيما باقي الدول بالكاد قادرة على اللحاق بها. بناءً عليه، يمكن فهم سخط الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومحاولة إدارته الدؤوبة على شيطنة شركة «هواوي» وإثارة المخاوف من أنها تريد التجسس عبر أنظمة شبكات الاتصال التي صنعتها، بينما في الحقيقة كل ما يريده هو دعم «كوالكم» والإبقاء على ريادة الولايات المتحدة الأميركية في مجال التكنولوجيا.

الوضع الراهن
بدأ هذا الخوف من هواوي بالتجلي في آذار/ مارس العام الماضي، عندما تدخل ترامب شخصياً لفض اتفاقية استحواذ شركة «برودكوم» في سنغافورة على «كوالكم» الأميركية، والتي كانت تعاني من أزمات مالية، بحجة أن هذا يهدّد بإضعاف الأمن القومي للولايات المتحدة، بينما في الواقع كان ترامب يريد الإبقاء على «كوالكم» ليقوم بتسويق التكنولوجيا الخاصة بها والعديد من الشركات الأميركية الأخرى بعد تحجيم شركة «هواوي» الصينية. اليوم، قرّر الرئيس الأميركي إصدار مرسوم يمنع فيه الشركات الأميركية من التعامل مع شركة «هواوي» الصينية. يعد هذا المرسوم الأقصى حتى الساعة، وهو بالتأكيد سيوجع «هواوي» في المدى القريب، مثلاً نظام الـ«أندرويد» على الهاتف مفتوح المصدر، أي بإمكان أي جهة استخدامه، ولكن متجر «غوغل بلاي» وكل تطبيقات غوغل وتحديثات نظام التشغيل، لن تعمل على هواتف هواوي التي ستصنع بعد هذا المرسوم (الأجهزة القديمة ستبقى على حالها). غير أن الوضع الحالي هو بمثابة فرصة كبيرة لـ«هواوي»، التي تعمل منذ فترة على نظام تشغيل خاص بها لتتحرّر من احتياجها لشركة «غوغل» ونظام التشغيل «أندرويد»، الأمر الذي سينعكس سلباً على حجم قاعدة مستخدمي «أندرويد» في العالم.
أصبحت الصين الدولة الأقرب إلى تشغيل منظومة الـ «5G» خلال العام المقبل


وفي أول رد مقتضب من شركة «هواوي» على العقوبات الأميركية الجديدة، قالت: «لقد ساهمنا في هواوي بشكل كبير بنشر نظام التشغيل أندرويد المفتوح المصدر في العالم، وفيما مختلف شركات الهواتف الذكية كانت تواجه صعوبات في مبيعاتها، كنا نحقق أرقاماً أكبر منهم جميعاً»، مضيفة أن «هواتف هواوي وهواتف هونور الموجودة حالياً مع المستخدمين، والهواتف التي صدّرت ولم تستخدم بعد، نضمن حصول المستخدمين على التحديثات والحماية البرمجية لأنظمتها».

أهمية الجيل الخامس من الاتصالات اللاسلكية
البشرية على عتبة نقلة هائلة في مجال تكنولوجيا الاتصال اللاسلكي؛ نتحدّث هنا عن تطوّر جذري يشبه، إلى حدٍّ ما، الظهور الأول للهواتف المحمولة، وما تبعه من تغيير في شكل حياة البشر وأسلوبها. أمور مثل إنترنت الأشياء «Internet of Things» (تسمية تطلَق على كل الأجهزة الحديثة التي تتّصل بالإنترنت مثل أجهزة التكيّف المنزلي، أدوات المطبخ وغيرها)، تكنولوجيا الواقع المعزّز والواقع الافتراضي، الذكاء الاصطناعي، السيارات ذاتية القيادة والمدن الذكية، كلّها أصبحت حقيقة. بات يمكننا تخيُّل مدينة ذكية، يرتبط كل شيء فيها بشبكة اتصال واحدة: روبوتات تنظّف الشوارع، طبيب يجري عملية جراحية عن بعد، طائرات من دون طيار تنقل حاجاتنا إلى المنزل، سيارات ذاتية القيادة تعمل بمحركات كهربائية لا تصدر ضجيجاً ولا تلوثاً، أجهزة المنزل مثل التلفزيون وغيره، أدوات المطبخ حتى إناء الورد في غرفة الجلوس، كل ذلك سيصبح موصولاً بشبكة اتصالات واحدة ويعمل عبر ذكاءٍ اصطناعيّ.
لكن بالرغم من هذا التطور الكبير، يبقى هذا المستقبل في خانة الطموح، إذ إن تلك الشبكة التي ستصل إلى مختلف أجزاء «المدينة الذكية» وما تحتويه من أجهزة يقدَّر عددها بالملايين، ما زالت ضعيفة ولا تسمح لمفهوم «إنترنت الأشياء» أن يطبَّق بشكله الحقيقي. أضف إلى ذلك، بحسب موقع «آي أف إل ساينس» iflscience، فإنّ 90 في المئة من حجم البيانات لكل الإنترنت قد خُلقَت في السنتين الأخيرتين، ومردُّ ذلك إلى كثرة الأجهزة التي أصبحت متصلة بالإنترنت، وفق موقع «ستاتيستا» statista. يقدَّر عدد الأجهزة المتصلة بالإنترنت اليوم بـ 26.66 مليار جهاز، فيما يُتوقَّع أن يبلغ هذا الرقم 75.44 ملياراً بحلول عام 2025، والسبب دخول الإنترنت إلى كل الأشياء من حولنا، وهو ما سيرفع من حجم عمليات نقل البيانات عبر الشبكة الحالية ويتخطّى قدرتها الاستعابية.
نظرياً، وضمن المختبرات ـــــ تصل إلى 300 ميغا بِتْ في الثانية، غير أنه على أرض الواقع تراوح السرعة من 20 إلى42 ميغا بِتْ، وذلك بحسب كفاءة أعمدة الإرسال ونوع الجهاز المتلقّي. على أنّ تلك السرعة تعدُّ قياسية مقارنةً بالجيل الثالث «3G»، إلا أنّها لا تستطيع أن تؤمّن السرعة والكفاءة المطلوبة لتلك التكنولوجيات المقبلة.
أضف إلى ذلك، فإنّ معدّل وقت الاستجابة Latency (الوقت الذي نحتاجه لنقل المعلومة من النقطة أ إلى النقطة ب) لمنظومة الـ«4G» هو 50 جزءاً من الألف من الثانية، بينما متوسّط وقت الاستجابة لدى البشر يقرب من 250 جزءاً من الألف من الثانية (أي متوسط سرعة البشر للاستجابة إلى ما يحصل أمامهم). تلك السرعة قد تكون كافية للبشر للقيام بأمورهم اليومية، ولكن بالنسبة إلى الآلات، يشكل الأمر كارثة. فالتأخير في عملية الاستجابة يمكن أن يتحول إلى حادث سير نتيجة عدم معرفة السيارة الذكية بموقعها الحقيقي أو موقع السيارات الأخرى المحاذية لها، أو وفاة مريض على أيدي طبيب يقوم بعملية جراحية عن بعد.
وعليه، كان لا بدّ من تقنية جديدة تنقل معدّل وقت الاستجابة إلى الصفر، وتكون في الوقت ذاته قادرة على استيعاب مليارات الأجهزة الجديدة، فكانت الـ«5G» الحلّ المنتظر بمعدّل يساوي جزءاً واحداً من الألف من الثانية لوقت الاستجابة، وبسرعة تراوح من 10 إلى 50 غيغا بِتْ في الثانية، علماً بأنّ كل 1 غيغا بت يساوي 1000 ميغا بت، ما يعد نقلة هائلة في سرعة نقل البيانات. لنقل مثلاً إنّ سرعة الـ 4G لديك هي 10 ميغا بت في الثانية، يعني ذلك أنّ حجم البيانات الذي يمكنك تحميلها في الثانية الواحدة يبلغ 1.2 ميغا بايت في الثانية، بينما تسمح تقنية الـ5G (سرعة 10 غيغا بت) بتحميل 1.2 غيغا بايت في الثانية الواحدة، ما يعني أنه سيصبح في الإمكان تحميل فيلم بوضوح كبير في 3 ثوانٍ فقط.