مع اقتراب الموعد الذي حددته «الإدارة الذاتية» التي تقودها «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، للانتخابات البلدية، في الحادي عشر من الشهر الحالي، تزداد وتيرة التصريحات التركية المناوئة لهذا التحرك، والذي تعتبره أنقرة «ترسيخاً للأمر الواقع بدعم أميركي». يأتي ذلك بالتوازي مع عودة الحديث عن إمكانية التعاون بين الأخيرة ودمشق، وخصوصاً بعدما أعلن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، أن بلاده تعمل على المصالحة بين تركيا وسوريا، كاشفاً أن خطوات في هذا الصدد «ستُرى قريباً»، وفق تعبيره. كما كشف السوداني، الذي كان قد استقبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الشهر الماضي، ووقّع معه على عدد من الاتفاقات الأمنية والاقتصادية، خلال حديثه الأخير الذي نشرته قناة «خبر ترك» التركية، أنه على اتصال مستمر مع الرئيسين السوري والتركي لتحقيق المصالحة. وقال: «نحاول التوصل إلى أساس مماثل للمصالحة السعودية الإيرانية بين سوريا وتركيا»، في إشارة إلى استضافة بغداد سلسلة من المحادثات بين إيران والسعودية قبل الاتفاق التاريخي الذي توسطت فيه الصين لاستئناف العلاقات الديبلوماسية بين البلدين العام الماضي.وتأتي هذه المبادرة بعدما تمكنت حكومة السوداني من بناء علاقات متينة مع دمشق، تم توثيقها إثر الزيارة التاريخية التي قام بها الرجل إلى سوريا بعد تولّيه منصبه عام 2022، ليكون أول رئيس وزراء عراقي يزور دمشق منذ 13 عاماً، الأمر الذي أتاح للعراق القيام بدور محوري في تقريب وجهات النظر بين سوريا والدول العربية، لتعود بعد ذلك العلاقات الطبيعية، وتستعيد دمشق مقعدها في "الجامعة العربية". أيضاً، تمكن السوداني من بناء علاقات قوية مع تركيا، وهي النقطة التي تدفعه إلى المضيّ قدماً في هذا الطريق برغم المطبات العديدة التي تواجهه، والتي تسببت بتعثر محاولات روسية – إيرانية سابقة، في ظل تمسك تركيا بوجود قواتها غير الشرعي في الشمال السوري، وإصرار دمشق على وضع خطة واضحة لانسحاب هذه القوات، ضمن أي نقاش تخوضه مع أنقرة بشكل مباشر، أو حتى غير مباشر.
وتزامن حديث السوداني عن الوساطة الجديدة مع التصريحات التركية المتزايدة حول ضرورة التواصل مع دمشق، سواء في الأوساط السياسية والحزبية، أو حتى في وزارة الدفاع. فقد أعلن وزير الدفاع التركي، يشار غولر، أن بلاده مستعدة لسحب القوات التركية من الأراضي السورية في حال تأمين الحدود، معيداً في الوقت ذاته تصريحات سابقة لإردوغان رأى فيها أن تأمين الحدود يحتاج إلى «اعتماد دستور شامل، وإجراء انتخابات حرة، وضمان بيئة آمنة (لعودة اللاجئين)»، ما يضع قضية الانفتاح بين البلدين في دائرة مفرغة، كانت الجهود الروسية – الإيرانية السابقة قد فشلت في كسرها، بينما يبدو رئيس الوزراء العراقي أكثر ثقة هذه المرة بقدرته على تجاوزها.
يبدو السوداني أكثر ثقة هذه المرة بقدرته على تجاوز العقبات أمام الانفتاح السوري - التركي


وبالتوازي مع حديثها عن إمكانية سحب قواتها من سوريا، شنّت تركيا هجوماً إعلامياً كبيراً على «الإدارة الذاتية»، معتبرة أن الانتخابات البلدية تعني ترسيخاً لـ«الشريط الإرهابي»، في إشارة إلى حزب «الاتحاد الديموقراطي» الذي يقود «قسد» والذي تعتبره أنقرة امتداداً لحزب «العمال الكردستاني» المصنف على لوائح الإرهاب التركية. كما كثفت هجماتها بالطائرات المسيّرة على أهداف لـ«قسد»، بينها سيارة كانت تقل 4 عناصر منها قتلوا جميعهم، ومنهم قيادي، وحتى سيارة إسعاف حاولت نقلهم، بحسب مصادر كردية، في حين ذكر «المرصد السوري لحقوق الإنسان» المعارض الذي ينشط من لندن، أن الهجمات التركية تسببت بإصابة 11 مدنياً، بينهم امرأتان وعدد من الأطفال.
على أن الحديث التركي المتواتر عن ضرورة الانفتاح على دمشق، وعلى عكس المرات السابقة التي ارتبط فيها باستحقاقات داخلية (الانتخابات الرئاسية والبلدية) يؤدي فيها الملف السوري دوراً محورياً، يأتي هذه المرة بعد فشل المساعي التركية المستمرة للتخلص من عبء اللاجئين السوريين، برغم حملات الاعتقال التي تعرّض لها آلاف السوريين الذين جرى ترحيلهم قسراً نحو مناطق في الشمال تسيطر عليها الفصائل، و«هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة – فرع تنظيم القاعدة السابق في سوريا). فقد عاد قسم كبير من المرحّلين إلى تركيا، وفقاً لمصادر ميدانية تحدثت إلى «الأخبار»، عن طريق شبكات تهريب مرتبطة بالفصائل و«تحرير الشام»، ما يفسّر الاتفاق الأخير الذي جرى بين أنقرة و«الهيئة» على إنشاء حرس حدود، وسط تهديدات لوّحت بها تركيا بإمكانية نشر قوات تابعة للفصائل في مناطق سيطرة «الهيئة». كما فشلت التجمعات السكنية التي يجري بناؤها بدعم قطري في استيعاب العدد الكبير من اللاجئين، وخصوصاً أن قسماً من هذه التجمعات تم توطين نازحين كانوا يقطنون في مخيمات عشوائية قرب الحدود التركية فيها، الأمر الذي يجعل التخلص من عبء اللاجئين مرتبطاً بالتوافق مع دمشق، وخصوصاً بعد الاتفاق الذي جرى في إطار «المبادرة العربية»، التي تسعى إلى دعم عمليات إعادة إعمار البنى التحتية وفتح الأبواب أمام عودة اللاجئين، وهي خطوات لا تزال معلّقة حتى الآن بسبب الضغوط الأميركية المستمرة لإفشالها.
من جهتها، لم تصدر دمشق أي تصريحات في هذا الشأن حتى الآن، الأمر الذي يمكن اعتباره تمسكاً سورياً بالمبادئ المعلنة سابقاً، والتي تحدث عنها الرئيس السوري، بشار الأسد، أكثر من مرة، عندما أكد أن سوريا منفتحة على أي حوار مع تركيا، باعتبارها دولة جارة يجب بناء علاقات طبيعية معها، على أن يكون أساس هذا الحوار بحث سبل خروج القوات التركية، مشدداً على أن أيّ لقاء مع إردوغان لا تناقَش فيه مسألة انسحاب القوات التركية يعني بشكل أو بآخر شرعنة هذا الوجود العسكري غير الشرعي.