حينَ أطلقت أنقرة عمليّة «درع الفرات» قبل عام وشهرين، كان تنظيم «داعش» محافظاً على كونه طرفاً قويّاً في المعادلة السوريّة. الرقّة «عاصمة التنظيم» كانت في قبضته مع «هوامش أمان كبيرة». دير الزور بمعظمها تحت سيطرته، وجزء صغيرٌ منها قابعٌ تحت حصاره بمدنييه ومن فيه من الجيش السوري. حتى في العراق كان التنظيم حاضراً بقوة في ذلك الوقت، ولم تكن معركة تحرير الموصل قد انطلقت بعد.
لكنّ قوّة التنظيم لم تُشكّل حاجزاً في وجه الجيش التركي، إذ نجح الأخير من دون عناء كبير في وضع قدمه داخل الجغرافيا السوريّة وأخذ في التقدّم ترافقه مجموعات مسلّحة تركيّة الولاء والهوى (ستتحول هذه المجموعات لاحقاً إلى نواة لـ«جيش وطني مُعارض» وإلى «جهاز شرطة» يتولّيان مسؤولياتهما في مناطق الاحتلال التركي). وباستثناء معركة الباب، لم يخض الأتراك ومجموعاتهم معركةً ضارية بمعنى الكلمة في إطار «درع الفرات». تساقطَت معاقل «داعش» واحدة تلو الأخرى، بما فيها قرية دابق بما تمثّله من رمزيّة لطالما سعى «داعش» إلى تكريس حضورها في وجدان «مجاهديه»، وبشكل كاريكاتوري جاءت معركة دابق أشبه بنزهة لا تمتّ بصلة إلى «معركة آخر الزمان» الموعودة. ولا تقتصر هزليّة المشهد على ما تقدّم، بل تتعدّاها إلى تفصيل بالغ الأهميّة مفادُه أنّ عدداً من «قياديي داعش» المنسحبين أمام تقدّم «درع الفرات» يقيمون اليوم في كنف «الدرع» وعلى وجه التحديد في مدينة جرابلس (ريف حلب الشمالي) وفقاً لما تؤكّده مصادر عدّة (بعضها «جهادي» وبعضها من السكان) لـ«الأخبار». نجاح أنقرة في الحلول محلّ «داعش» في المناطق التي تحولت «منطقة آمنة» غير معلنة لم يكن المسمار الأول في نعش التنظيم بطبيعة الحال، غير أنّه كان مسماراً شديد الفعاليّة لأنّه جاء في مرحلة مفصليّة. لكن أنقرة التقطت بوضوح أن زمن الصعود قد ولّى، فأجادت استثمار علاقاتها المتشعّبة لتنفيذ دخولٍ آمن إلى مسرح الحدث، وبطريقة تضمن لها تحقيق أهداف عدّة على رأسها تقويض أي فرصة أمام الأكراد لوصل «الأقاليم»، إضافة إلى خلق منطقة تبدو أشبه بمنطقة «انتداب» غير معلن.