يبدو أن من ينسب إلى نفسه، وهذا ما لم أفعله، صفة اليساري، قد رسم لنفسه أيضاً صورة نمطية. قسم كبير من الذين قصدتهم في مقالتي الأخيرة «كيف تكون يسارياً ــــ ليبرالياً» بدَوا منفعلين. كنت أظن أن اهتماماتهم العامة أكبر بكثير من هذا النقاش، وأنهم أمام جدول أعمال يتعلق بكيفية التفاعل مع الثورات العربية القائمة الآن، وما هو نصيبهم منها. لكن يبدو، مرة جديدة، أنهم ظلوا حيث هم، على هامش المشهد. وفي أحسن الأحوال يتلبسون دور المراقب. يبدون تعاطفاً أو تحاملاً أو أي شيء، لكنهم يمتازون بفوقية أخلاقية عجيبة المصدر تصيبهم بالدوار، فيعتقدون للحظات أنهم أساتذة في منح العلامات لهذا أو ذاك من البشر أو المجموعات على حد سواء.
بائسون، لا يريدون الإقرار بأنهم باتوا من الماضي. وأن الطليعة الحقيقية والواقعية للناس اليوم ليست من بيئتهم، ولا من بنات أفكارهم، ولا تشبه شيئاً من شعاراتهم، وليس فيهم عنصر جذب حتى لمراهق. اليباس يصيب أُطرهم على ندرتها، والعقم يصيب ما بقي في عقولهم، ولعبة الاستغراب هي الأقرب إلى عقولهم. يؤدون دور الليبرالي المؤيد لكل حقوق الفرد في الندوات، لكنه يدافع عن النظرية الأميركية ــــ الغربية في اقتصاد السوق القائم على سرقة موارد البلاد والعباد.
في سنوات التنظيم اللينيني، كانت الجماعة تسيطر على الأفراد. كان الذوبان شرطاً حقيقياً للانضواء. لكنه لم يكن عملاً فردياً، كان خليطاً رائعاً من القيم والأفكار والحساسيات الإنسانية، التي تدفع الفرد إلى نكران ذاته، ليس حتى مستوى الذوبان في الجماعة، بل حتى حدود العدم، أي الموت في سبيل سعادة الآخرين. لكن جيل الأولاد من هؤلاء، لا يعرف من الحكاية سوى هوامشها. هو يضيق ذرعاً بالعمل الجماعي؛ لأنه يحرم الفرد خصائصه الذاتية. يمنع عنه التمايز في الحد الإيجابي، ويضيع عليه حقه في الخروج عن صف العسكر من دون إذن القائد. لكنه، هو نفسه، الولد اليساري ـــــ الليبرالي البائس، يفتقر إلى فكرة العمل الجماعي. تعوَّد فكرةَ أن هناك من يفكر، وهناك من يقرر، وهناك من يقود، وأن البقية مجرد جنود عليهم مبايعته أميراً، له الطاعة وعليهم التنفيذ. لكن الصورة الفارغة من أي شيء، تجعل هؤلاء يقبلون استبدال الإطار العام بأطر صغيرة، إلى مجموعات أصغر، تجمع ما هو أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، أو الاثنتين إن كان بارعاً.
هم يحتجون على القوانين العامة التي تدار بها العائلة، والمدرسة، والقبيلة، والطائفة، والمنطقة، والدولة، والأمة والعالم أيضاً. ليس بينهم الآن من يقدر على ادعاء ملكية فكرة جامعة. منذ عقود وهم يعيشون في دائرة ردّ الفعل. وكل الغضب الذي يسكنهم، بسبب المآسي التي يواجهونها أفراداً أو شعوباً، إنما تعود لتختفي آخر المساء، خلف كأس مصحوبة بموسيقى مخصصة لأحلام اليقظة. وعند الصباح، يعاودون اصطفافهم مثل براغٍ في ماكينة كبيرة. لا يقوون على شيء بحجة البحث عن لقمة العيش. لا يملكون الجرأة على اختبار قام به ثائرون حقيقيون، قرروا تحمل تبعة موقف إنساني خالص، فتخلوا عن أمكنة، وعن عادات، وعن أعمال، وعن امتيازات، لأنهم باتوا على اقتناع بأن لا شيء يعالج قلقهم وأرقهم اليومي. وقلة منهم، تلجأ إلى العنف العدمي، على شاكلة المتطرفين المنتشرين الآن في كل العالم، باسم الأديان أو من دونها، يقومون بالأعمال الانتقامية على خلفية اليأس، والشعور بلا جدوى الحياة. فيتحولون في لحظات إلى أدوات لقهر ذواتهم، يستغلهم خصمهم المنتشر في كل مكان، ويترك لهم العيش بوهم أنهم أصحاب الفعل.
ما يرفضه هؤلاء، ليس صورة نمطية تقليدية وجب على البشر تلبسها، بل ما يرفضه هؤلاء، هو الإقرار بأن سعيهم إلى الاختلاف، إنما انتهى إلى اختلافهم عن أنفسهم فقط. هم لا يعرفون أنهم يشبهون كل خصومهم، بل هم صورة مطابقة عن الفوضويين، الذين لا يأبهون لأي شيء من حولهم مقابل حقهم في التعبير عن ذواتهم. وهم صورة مطابقة عن الاستغلالي، الذي لا يهتم لصراخ الفقراء، ويلجأ إلى زيادة ربحه، بأي وسيلة أُتيحت له. ثم هم في آخر المطاف، أقلويون، ينقصهم الكثير من المعرفة الحقيقية. كأنهم لم يعرفوا المدارس، ولا المناهج، ولا حتى الساحة حيث يعيشون. وكل ما يعرفونه، هو أنهم باتوا أسرى عوارضهم المقيتة. تلك التي تجعل الناس تدل عليهم عن بعد، وترذلهم، وحتى تتجنب الإشارة إليهم بالحسن والإيجاب. وهكذا ينتهي بهم الأمر، في حالة عزل ذاتي، وساعتها، يعتقدون بالانتصار على القوانين، فيذهبون إلى ممارسة طقوس خاصة، بهم، وإذا أشار إليهم أحد بذلك، عدّوه متلصّصاً لا يحق لهم مراقبتهم أو حتى الاقتراب منهم، ما لم يعلن الولاء. وفعل الولاء هنا، أساسه قطع الصلة بالذات، والبحث عن ذات أخرى، يبدو أن في الغرب المتوحش من فتح دكاناً ليبيع من هذه البضاعة. ومرات يعطي الزبون حق التجربة، مثل حال تجار المخدرات الذين يرشون الزبائن بعروض سخية، فقط لأنهم يضمنون أن هؤلاء سيعودون إليهم ومعهم غلة الأهل كلها.
اليساري ــــ الليبرالي، رجل مريض فعلاً. لكنه لا يقبل التشخيص، ولا يقبل الذهاب طوعاً إلى من يعالجه. وإذا ما اقتنع أو أُجبر على ذلك، فالله أعلم إن كان هناك من يجيد علاجه أصلاً!
14 تعليق
التعليقات
-
اليسار الحقيقي كان يما كان فياليسار الحقيقي كان يما كان في قديم الزمان تحية الى الاستاذ ابراهيم الامين.
-
سؤال الى الاستاذ ابراهيمسؤال الى الاستاذ ابراهيم الامين بصفته رئيس مجلس إدارة الجريدة : لماذا تتجاهلون طلبات القراء المستمرة لرفع اللبس عن نشر مقال ل"ليساري" الليبرالي الصهيوني اوري أفنيري في جريدتكم؟ مع سابق الشكر على الجواب.
-
يسار وخيار وديموقراطيحضرة الأستاذ ابراهيم المحترم اليسار هو من اوجد جريدة الأخبار واليسار من علم ورسم الخطوط الأولى لهذا الوطن هو من عرْف النقابات واسسها والكرامة الوطنية بالمقاومة والتحرير هو من صان الحريات والثقافة واعطى معنى آخر لبيروت وانتم كل اليساريين المترسملين تنكرتم لليسار ومسيرته وجمهوره ولهثتم وراء جمع الأموال وبناء المنازل الفاخرة ولا هم ان كانت عصرية حديثة او قديمة تاريخية انتم شوهتم اليسار ومعناه وتضحياته ,لقد سئمنا نقاشاتكم التي هي على شاكلة اليسار الديموقراطي الزمن يمر والتاريخ لن يرحمكم فأفعلو ما عليكم فعله عوض رمي التهم بعضكم على بعض والتهكم ورمي المسؤولية على الآخرين فكلكم في المركب سواء وسوء".
-
وإنت شو بتصنف نفسك؟وإنت شو بتصنف نفسك؟
-
والله يا استاد ما راح نتركوالله يا استاد ما راح نترك اليسار ونروح على اليمين
-
هناك يساريين غير ليبراليينأستاذ إبراهيم الفكر العلمي اليساري جيد و قريب الي الحقيقة فزياد الرحباني تنبأ في التسعينات و علي قناة LBC ان العالم العربي سيحكمه العسكر و الدينيون و لبس علي طريقته الهزلية القلوسة و الجاكيت العسكري و لقد صدق أنظر إلي مصر وتونس المشكلة هي ان المال الخليجي نجح في شراء بعض اليساريين حتي انهم اشتروا عزمي بشارة و كان هذا خيبة أمل كبيرة لي انا ولكن برأيي هناك الكثير من اليساريين الغير ليبراليين و إيه في أمل و إنت واحد منهم و ننتظر دوما مقالاتك
-
رائع كما دومافيتحولون في لحظات إلى أدوات لقهر ذواتهم، يستغلهم خصمهم المنتشر في كل مكان، ويترك لهم العيش بوهم أنهم أصحاب الفعل.... اليساري ــــ الليبرالي، رجل مريض فعلاً. لكنه لا يقبل التشخيص، ولا يقبل الذهاب طوعاً إلى من يعالجه. وإذا ما اقتنع أو أُجبر على ذلك، فالله أعلم إن كان هناك من يجيد علاجه أصلاً! ظنتك تكتب عني وبعد لحظة لا عني صديق أعرفه...وبالأخير ارتحت لأني أن أقبل التشخيص والعلاج...ماكتبته أعلاه أعتقد أنه درر لكن لمن يتمعن فيه. شكرا.
-
"وشهد شاهد من أهله"وأين أنت من كلّ هؤلاء أستاذ ابراهيم ؟انتظرناك طويلا عبر صفحات الجريدة فخرجت علينا بحربك مع اليساريّين والليبراليين منهم وكأنّ هذا وقتها !انتظرناك لتنتقل من صف الكتّاب إلى صفّ المعلّقين في رفضنا لوجود مقال لكاتب اسرائيليّ في صفحة الرأي !بل حتّى ناديناك بالاسم فاخترت العزلة والصمت !نعم الفكر والمعرفة عبء على صاحبه في بلداننا في الظرف العاديّ ويكاد صاحبه يكون شاذّا ومنسلخا عن محيطه ,ولكن إن لم يكن له دور في الظرف الاستثنائيّ فمتى سيكون ؟!أم هي المعرفة طريقا إلى التمايز الذاتيّ فقط لاغير ؟,خرج علينا في بداية الثّورات بعضا من هؤلاء الذين تقول عنهم وردّدوا علينا كلاما حفظوه غيبا من كتبهم اليساريّة وكأننا نحن البسطاء من يجب أن ينبهّهم أنها ليست قرآنا منزلا ,انتظرناكم أنتم المنتمون للطبقّة المثقّفة واليساريّة خصوصا كي تتوحّدوا وتشكّلوا سدّا منيعا أمام كل من يريد جرّنا إلى أنظمة دينيّة غيبيّة فالتهيتم بخلافاتكم وانسحبتم من الساحة واحدا وراء الآخر ,فهل هي المفاجأة والذهول لم تستيقظوا بعده !! ليترككم الركب الثائر وراءه دون عناء الالتفات عليكم ,كان من المفروض أن تسبقوه إن لم تواكبوه على الأقلّ وأن تصحّحوا مساره إن انحرف وأن تكونوا الحامل الفكريّ له كي لايتخبّط ,أكيدةأنّ كلّ كلمة كتبتَها في مقالك كنت تفكّر حينها باسم يساريّ محدّد ولم تأتِ اعتباطا وشهادتك هذه وأنت من أهل البيت ,فماذا نقول نحن !! افتتحت كلامك ذات مقال "أننا نحن العوام "فلمَ لم نرك بيننا نحن العوام ..بالنسبة لي على الأقل أستاذ ابراهيم أرى فيك آخر قلاع الأخبار ولكن لست أدري إلى متى ....!!
-
الى اليسار در ؟كل ما يجري على الساحة الدولية يؤشر على عودة الى شكل ما من أشكال اليسار ،فحتى الاتجاهات الدينية والأصولية تطعمت بالكثير من صفات اليسار .لقد امتلكت الأحزاب الأصولية الفرصة لكسب الرهان لكنها لم تفلح بعد ...
-
انها مهزلةالاستاذ ابراهيم: انت توهمنا في هذا المقال الذي ترد فيه على بيار ابي صعب ان لا يزال هناك حيز للنقاش وتصادم الافكار على صفحات "الاخبار" في ما كلنا نعي في الحقيقة انك وبيار قد احكمتما السيطرة على النقاشات الفعلية التي تتعلق بالثورات العربية و بسوريا بالتحديد. تمثيلية "احتدام" نقاشكما هذه تجعلنا نترحم --مرة اخرى-- على اخلاقيات هذه الصحيفة و تجعلنا نشتاق الى من كان يلعب هذا الدور وبصدق وجدارة عالية، هو نفسه الذي لم يعد يجد مكاناً يكتب فيه في هذه الجريدة التي كنا نعشق. ملحوظة: بالنسبة لعبارة "الغرب المتوحش"؟ هل هي من تجليات حنينك الى "الوردة على بحر العرب"؟
-
جيّد و لكن...وصف دقيق لهم...و لكن يا أستاذنا العزيز أين أنت من الحرب على سوريا؟ أليس أنتَ الوريث الشرعي لجوزف سماحة؟ أين زخاتك التعبوية اليومية التي كانت تقصم ظهور المتآمرين على كل شريف في هذه الأمة؟ لا أحد يطلب منك نصرة نظام أو شخص...هم يستهدفون سوريا الموقع و الدور و لا يبالون أي نظام يحكم سوريا او عدة سوريات. أنت تعرف جيداً إن ضاعت سوريا ضاع لبنان و ضاع كل العرب و لن يبقى من فلسطين إلا إسمها و سوف يستفردون بمصر و...و... اليساري الليبرالي تافه لا يستحق منك كل هذا العناء...شمّر عن ساعديك و إنزل إلى ساحة المعركة الحقيقية...لم يعد هناك الكثير من الوقت...فإن لم تفعل و انتصرت سوريا المقاومة لن تحسب في عداد المنتصرين و إن هُزِمت حتماً ستكون من المهزومين...
-
من اول ما افتتحت الاخبار ومن اول ما افتتحت الاخبار و انا انبه انها مخروقة من بعض اليساريين الديموقراطين-النيو ليبيراليين وما حدا كان مصدقني شكرا الان وصلني حقي
-
هلوسات فوضويةأسعد الله أوقات الأستاذ إبراهيم,,,الذي يضن علينا بمقالاته,في هذه الأيام العصيبة. و مع أحداث مصر المؤسفة بالأمس,,, و تصاعد الإشتباكات المسلحة,في سوريا,,,و ما ينشر عن إنطلاق "القوى الجهادية " من مضارب أهل "النخوة" باتجاه الأراضي السورية. و إن جمعت ما قد فهمه عقلي, من هذا المقال,مع المقال السابق عن الليبرالي,,, فستظهر هذه الصورة وسط الفوضى و اللا معقول المنطلق نحو الهذيان : http://www.youtube.com/watch?v=9QS0q3mGPGg&feature=endscreen&NR=1
-
يا اخي خلصونا من هالقصة بقايا اخي خلصونا من هالقصة بقا . اليسار مات و شبع موت و نحنا قرانا عليه الفاتحة و دفناه بايدينا و غمقنالو القبر و صارت عظامو مكاحل ! جايين حضرتكم بدكم تنبشو القبور و تحيو العظام و هي رمبم ! كلمة و من الاخر للذي بدو يفهم : يللي عم يحرك كل هالبشر بالعالم العربي هي بتعبير الطب النفسي ’’غريزة القطيع’’ , و يللي شاف مجزرة مباراة الكرة في مصر مبارح و اكثر من 200 مسيحي قتلو في حمص وحدها (ربما من يقول ان هؤلاء ضحايا للثورة السورية المباركة!) منذ بدء ثورة ’’العرعور’’ و ’الشقفة’’ العظيمة سيفهم ما معنى ’’غريزة القطيع’’ عندما تتحكم بالبشر ,,,, تحياتي يا رفيق ملاحظة اخيرة :اذا بعد في شي كم يساري بهالامارات امسك الباسبور و عجل على اول سفارة تقع عينك عليها قبل ان تبدا حفلة الجنون الطائفي الكبرى ... اللهم اني بلغت