«الموت جزء من الحياة، لا مفرّ منه. لكنّه ليس نهاية كل شيء. تبقى أعمالنا وذكرياتنا حيّة بعد رحيلنا»، وبول أوستر (1947 ــــ 2024) الذي رحل في الأوّل من أيّار (مايو) في منزله في بروكلين بعد معاناة مع سرطان الرئة، سيبقى في الذاكرة الأدبية بصفته أحد المعلّمين الكبار في فنّ السرد وأعظم كتّاب جيله بلا منازع. «نام» الكاتب والشاعر والسيناريت والمخرج الأميركي الذي كان يرى أنّ «النوم هو الانسحاب الأقصى من العالم»، بعدما صرّحت زوجته الكاتبة سيري هاستفيت قبل عام عبر صفحتها على الإنستغرام بأنّ زوجها يخضع للعلاج من السرطان، مضيفةً «إنني أعيش في مكان صرت أُسمّيه بلاد السرطان»، وتعني بذلك مدينة نيويورك. تظلّ نيويورك الحاضرة الأبرز في روايات أوستر ومسرحاً لأعماله التي تُرجم عدد كبير منها إلى العربية، فهو الذي كتب ودرس وأخرج شخصياتها الهامشية إلى السطح. بذلك، كان نقيض الصورة المرسومة عن تلك المدينة التي تظهر في كُلّ مكان كمدينة لامعة وبرّاقة. لقد كتب عن عالمها السفلي المسكون بالمُشرّدين والمهمّشين والتائهين والمرضى والجوعى الذين تقطّعت بهم السُبُل في مدينة لا تنام وناطحات سحابها تنافس السماء. وهذا ما برز في عمله الأضخم «ثلاثية نيويورك» وأعمال أخرى مثل «اختراع العزلة» و«موسيقى الصدفة».
«ثلاثية نيويورك» جعلته رمزاً لجيل أدبي جديد وكرّسته في المشهد العالمي

تيمات أساسيّة شغلت صاحب «رحلات في حجرة الكتابة» الذي كان يرى أنّ حاجتنا إلى القصص مثل حاجتنا إلى الطعام، هي: المصادفات، ولعبة الأقدار، والهوية، وغياب الأب والفشل والتاريخ... ففي باكورته الروائية «اختراع العزلة» (1982) المقسمة إلى جزءين، ساءل الكاتب ذاكرته العائلية محاولاً الإحاطة بشخصية أب متباعد حتى الغياب، فيما تأمّل في الجزء الثاني ثيمات مثل المصادفات والقدر والعزلة والعبث والفقدان. وإذا كانت باكورته قد حملت صورة أوّلية عن انشغالاته الفلسفية، فإنّ «ثلاثية نيويورك» (1986) هي التي جعلته واجهة جيل أدبي أميركي جديد، وكرّسته في المشهد الأدبي العالمي، خصوصاً باريس التي كنّ لها مكانة خاصة، بعدما عاش فيها من عام 1971 حتى 1974 وترجم أبرز أدبائها وشعرائها على رأسهم مالارميه وسارتر وجورج سيمنون. قدّم في «ثلاثية نيويورك» («مدينة من زجاج» و«أشباح» و«الغرفة المقفلة») تأويلاً ما بعد حداثي لأدب التحرّي والغموض، مستكشفاً تيمات فلسفية عدة وشكّلت نيويورك مسرحاً مكانياً لها، وصولاً إلى روايته الأخيرة «بومغارتنر» (2023) التي ساءلت الذاكرة، عبر تشريح علاقة أرمل بشبح زوجته، طارحاً سؤالاً: لماذا نتذكر لحظات معينة دون غيرها؟ حملت كتاباته خليطاً من العبثية والوجودية، هو الذي قال في مقابلة مع ستيفن كابين ودان إبستين، نشرت في مجلة «ثري إي أم» الأميركية (ترجمها إلى العربية محمد هاشم عبد السلام): «كثيراً ما يقول الناس إنّ لديّ إحساساً خطأً بالواقع، بمعنى أنّ الأمور التي أكتب عنها منافية للعقل والطبيعة وغير حقيقية. ودائماً ما زعمت أنني كاتب واقعي: نظراً إلى أن العالم، بالطبع، غريب إلى حد كبير عما يتصوره الناس عنه. ذلك أنّ ما يستجيبون إليه فعلاً ويتجاوبون معه هو الأساليب والتقاليد الأدبية التي نشأت وتوطدت منذ أواخر القرن التاسع عشر.


إن الأشياء اليقينية غير مناسبة للرواية، ذلك ما أزعمه دائماً. إلا أنني أتصوّر أنّ كل شيء يصلح للرواية. وإذا عزلنا أنفسنا عن التجارب، فلن نسرد الحقائق الفعلية عن العالم. على نطاق واسع، أردت اكتشاف ما إذا كان الآخرون قد مروا خلال حياتهم بخبرات غريبة وخارقة للطبيعة ولا يمكن التنبؤ بها بالقدر نفسه الذي مررت به أنا من خبرات في حياتي». دائماً ما التفت أوستر إلى الجهة المُقابلة، إلى ما لا يخرج إلى نشرات الأخبار ولا تهتم الصحف بنشره، إلى أزمات الناس العاديين وقلق بائع العربات الجوالة من أن يحلّ الغروب وهو لم يبع بضاعته كلها، وقلق مَن افترشوا طُرقات المُدن الضخمة التي لا تنام من أن تأخذهم الرياح معها. لقد شارك عمال المصانع اشمئزازهم من ظروف العمل اليومية، واشمئزاز المُتبضعين من ارتفاع الأسعار وقلق الوحيدين في لياليهم من ماهية العالم والموت والحياة وصراعهم المحموم مع المعنى ورعبهم من فقدانه والوقوع في براثن دوامات العبث التي تأكل الروح وتفتّتها.
في المقابلة نفسها، يقول أوستر: «هذا الإحساس بالتواصل مع غرباء، هو السبب في أن الكتابة لن تموت أبداً، رغم كل التنبؤات الرهيبة التي قيلت عن مستقبل الأدب. إنها قاصرة ومحدودة في نظري. كما أنّ عالم الكتابة أرحب من الأدب. الكتابة عبارة عن قدر من الورق. مجموعة قطع من الورق مطبوع عليها كلمات. وتلك الكلمات دبجها قلم شخص ما لمخاطبة الآخرين. إنها المكان الوحيد في العالم، في تصوّري، الذي في استطاعة شخصين غريبين كلية التقابل فيه على أعمق مستوى. إنها الشيء الوحيد الذي يؤكد إنسانيتنا المشتركة. هذه هي قوة الكتابة».