أبرز ملاحظة على جولة العنف الحالية في طرابلس هي انتقال عدوى التشتت التي تعيشها المجموعات المسلحة في سوريا الى شبيهاتها في الشمال وعاصمته. أجندة العمل غير واضحة، وتعبّر عن مشروع فوضى وتوجه إلغائي وتكفيري مذهبي، كما ان «الإمرة الجهادية» غير معقودة لطرف بعينه او لشيخ بذاته، بل يتوزعها أمراء وقادة مسلحون.
لكن الجديد اللافت في قلب هذه الصورة هو ان أحداث جولة العنف الراهنة، حملت حدثاً بارزاً هو انقلاب قادة محاور باب التبانة على الجهات السياسية التي درجت على استثمارهم من وراء الستار، لتمرر من خلال الفوضى التي تمارسها بين فترة وأخرى ضد جبل محسن، مواقف تزيد من رصيدها السياسي المحلية والاقليمية. أما وقائع «ليلة انقلاب قادة محاور باب التبانة» على النائب كبارة والمستوى السياسي الذي يمثله، فجاءت كالآتي:
ليل الأربعاء ـــ الخميس، وفيما كانت فوضى الاشتباكات تلهب محاور المدينة مع جبل محسن، مع غياب الموقف السياسي الموجّه لخليط مسلحي أحياء عاصمة الشمال، اقتربت سيارة عميد حمود من جامع حربا، وبرفقته النائب كبارة. تقرر الاجتماع بدعوة من الأخير وحدد موعده قبل ساعات فقط. وكان في ذهن كبارة تكرار المشهد ذاته الذي لطالما كرره في جولات العنف السابقة في المدينة، وهو دعوة قادة المحاور إلى اجتماع يؤدي إلى منحه التفويض السياسي من قبلهم لتمثيلهم في اجتماعات التهدئة والتعبير عن السقف السياسي للمعركة. وككل مرة، حضر كبارة برفقة حمود الذي يستعين بنفوذه في صفوف المجموعات المسلحة من جهة، وبوعود مالية سيحصلها لهم من الخارج مقرونة بضمانات أمنية رسمية من جهة أخرى، لكن هذه المرة فوجئ ثنائي كبارة ـــ حمود بقادة محاور باب التبانة يعلنون «الانقلاب» تحت شعار «كل الإمرة الميدانية والسياسية لنا».
لم يتخلف مشايخ باب التبانة عن الاجتماع. حضر الشيخ خالد السيد والشيخ عمر عزيز والشيخ مازن المحمد وآخرون، وانضم إليهم أيضاً ما يفوق الـ 130 مسلحاً يمثلون محوري جامعي حربا والجهاد.
لكن الصدمة غير المتوقعة في الاجتماع حصلت عندما تبين لكبارة ان قادة المحاور قرروا مقاطعته، اعتراضاً على أمور عدة، في مقدمها تصريحه خلال النهار الذي دعا فيه الجيش إلى «الضرب بيد من حديد»، فاعتبروا هذا الموقف دليلاً على أن كبارة يقف مع الجيش ضد باب التبانة.
نسف غياب قادة المحاور الغاية الأساسية من الاجتماع، وهي توحيد الرؤية السياسية لإدارة المعركة. فغيابهم عنى أن المجتمعين اصبحوا منقطعي الصلة مع الميدان. هذا الأمر نقل النقاش إلى عنوان آخر تركز على الشكوى من حال الانقسام والتشظي التي تسود الساحة الطرابلسية وقواها السياسية والمسلحة. وارتفعت نبرة توجيه الاتهامات إلى كبارة، وبنسبة أقل إلى حمود، عن أسباب الشقاق وشيوع الفوضى والجهة المسؤولة عنه.
خلال الاجتماع استفاض الشيخ بلال بارود في تفنيد أسباب الفوضى القائمة داخل الصف الواحد، وطالب الجميع الالتزام بأمرين: عدم الخروج عن الشورى وعدم التعامل بخشونة مع الجيش. وأيده في ذلك الشيخ مازن المحمد قائلا: «أصبح هناك دم في كل شارع في طرابلس. وبات الخلاف يحصل هذه الأيام بين كل مسلحين اثنين من جماعتنا، في كل زاروب وشارع». ووجه نقدا عنيفا إلى نواب طرابلس، وضمناً إلى كبارة، قائلا: «بدل ان توحدونا وتوحدوا الرؤية والفعاليات تؤدون دوراً في تفرقتنا».
ثم سأل: «أين السلاح؟. في جبل محسن يوجد سلاح ليس لدينا مثله في باب التبانة». وهنا استشعر حمود بأنه يتعرض لغمز من قناة ما ساد أخيراً في باب التبانة، عن سرقة السلاح الذي يرسل إلى مجموعاتها المسلحة؛ فأجاب: «أنا وزعت السلاح، لكنني لا استطيع ان اغطي كل احتياجات التبانة منه». فتدخل كبارة الذي بدا محبطا نتيجة «الفيتو» الذي وضعه قادة المحاور على اللقاء به. وسأل: «من يمكنه الاتصال بقادة المحاور لنقف على تفاصيل مطالبهم ونفضّ المشكلة معهم؟».
اقترح حمود الشيخ خالد السيد للمهمة، لكن الاقتراح تعرض لتشويش من بعض ممثلي المسلحين الحاضرين في الاجتماع. فانبرى محمد الحلوة (الملقب بابو دعاس وهو مطلوب من الجيش) ليأخذ المشكلة بين كبارة وحمود من جهة، وقادة محاور باب التبانة من جهة ثانية، إلى خلفية أخرى مضمرة. ووجه إصبعه الى كبارة ومرافقيه قائلا لهم: «انتم شحاذون. تشحذون من السعودية على اسمنا واسم باب التبانة... فيما أهل التبانة مشردون». ثم تمادى بكلام أقسى ضد كبارة. وهنا حاول الشيخ السيد ثنيه عن الاستمرار في الكلام، لكنه رفض، فطلب الاخير من المسلحين ان يرموه خارجاً. وبالفعل أُخرج عنوة .
حاول كبارة بعد ذلك أن يعيد الحياة إلى اقتراحه بإرسال من يفاوض قادة المحاور، لكن في هذه المرة بدا ان حمود يستغل ما طرأ من ضعف على موقع كبارة في معادلة تمثيل المسلحين سياسيا خلال لعبة التفاوض وقطف الثمرة السياسية له. فقال حمود: «ليذهب الشيخ السيد اليهم. واتركوا سعد المصري عليّ». وبدت هذه إشارة الى انه الوحيد الذي يستطيع إقناع الاخير، الذي يعدّ الاكثر تشددا في نقد تصريح كبارة، من بين كل قادة المحاور. وأضاف حمود ملتقطاً فرصة الحلول مكان كبارة في ادارة العلاقة بين الارض والقرار السياسي: «اذهبوا الى قادة المحاور واتفقوا على مطالب محددة واتركوا الارض لي». علق احد المشايخ على كلام حمود قائلاً: «انه انقلاب لحمود داخل انقلاب قادة المحاور على كبارة».
انفض الاجتماع على اتفاق بتكليف السيد وعمر عزيز ومازن المحمد الاجتماع بقادة المحاور في الليلة نفسها في جامع حربا لتظهير صيغة موحدة لمطالبهم. وكان شرط قادة المحاور لقبول مبدأ الاجتماع، أن يعطوا مطالبهم إلى وفد المشايخ على ان ينقلوها في الليلة نفسها الى كبارة الذي عليه ان «يعلنها باسمهم في مؤتمر صحافي من دون زيادة او نقصان».
غداً: وقائع جديدة عن خفايا
حرب طرابلس