«بو نعمة»... قلائل يعرفون هذا الاسم ويعلمون ما يعنيه، ويدركون أن الرجل المتواضع الطيّب المُحبّ، يختزن خبرة عمر في القتال ضد العدوّ. قتال صنو الطيبة والتواضع، وليس نقيضهما، صقل مثل هذه الشخصية الفريدة.سحنة الوجه، ولهجة الصوت، تدلّان على أن الرجل آتٍ من هذه الأرض. هو ابنها الذي تعرفه جيداً مثلما يعرفها، ويعرف كل تلة وشجرة وصخرة فيها، منذ أن كان طفلاً يلهو بترابها وحصاها، ثم مقاوماً لم تُعرف له مهنة أخرى غير القتال، يختال في جبالها ووديانها، باعتبارها مسرح شغفه، وعوناً له في ما تقتضيه ميادين الحروب. ولأن المقاومين الكبار مثله، هم بالضرورة مجهولو الاسم والعنوان، فإن «بو نعمة»، لم يُعرف له عنوان إلا الجنوب، منذ الولادة حتى الشهادة. لم يغادره أبداً إلا في مهمّات قصيرة كانت لا تستغرق إلا أياماً قليلة. وحين كان الناس يرتحلون خلال الاعتداءات الإسرائيلية، كان يبقى مع المقاومين في القرى، وبعض عجائز ممن يفضّلون الموت في أماكنهم على المغادرة.
الروح فيها أصالة المتيقّن من أن قتاله العدو وتعبه في مقارعته سيُحتسب في أعماله أمام الله، وهذا يكفيه. حتى لتظنّ إزاءها أن الرجل آتٍ من زمن فائت، كانت فيه السليقة أنقى وأطهر، وكان الناس أصدق وأكثر بساطة وحباً. بهذه الروح، كان «بو نعمة» شخصاً نادراً قد تستطيع أن تعدّ قائداً مقاتلاً مثله، إلا أنك لن تعثر بسهولة على من يملك الهالة والسحر اللذين تشعر بهما بمجرد أن يكون حاضراً. ولأنه كذلك، فهو كان مهيباً، حتى لو أراد أن يبدو بسيطاً غير متكلّف أمام الناس.
قائد عسكري متمرّس ذو بأس، وبهذه الصفة كان الظن أن مَن هم مثله لا يسقطون، وأنه عصيّ على أن ينال منه العدو. ولكن، كما في كل مرة يُستشهد فيها مقاوم، وخاصة قائد كبير، فإن «بو نعمة» ارتفع إلى جوار الله، وهذا هو العزاء. العدوّ يترصّده ويطارده منذ سنوات طويلة. فكل أدواره في المقاومة جعلته هدفاً دائماً في أعلى القائمة. ومع ذلك، استطاع أن يراوغ العدوّ طويلاً، وكان أحد الذين أدّوا دوراً حاسماً في الانتصار عليه، وحقّق الكثير في حياته، وهذا أيضاً عزاء. ولذا، فإنّ العدوّ لا شك الآن مزهوٌّ بـ«صيده الثمين»، وهو لا يفتأ يغلّب غريزة الانتقام، على رغم أنه صار يعرف جيداً أن الشهداء أمثال «بو نعمة» أقوياء في موتهم، كما في حياتهم. في حياتهم يصنعون مجداً، وفي موتهم يُلهِمون. لكن كما يبدو، كان حساب العدوّ مع «بو نعمة» أكبر من أن يتغافل عن خروجه، في لحظة استراحة محارب، بعد أشهر طويلة قاد خلالها قسماً واسعاً من الجبهة ضدّه، حتى وإن خادع بالقول إنه لا يريد الحرب. «بو نعمة» كان مقاتلاً شجاعاً، يشهد كل من عايشه أن الخوف لا يعرف طريقاً إليه، ولكنه لم يكن مغامِراً. كان يعرف ما للعدوّ من إمكانات، ومن أكثر منه ليعرفه؟
في المقاومة لم تخطئه ساحة. وفي الصراع الأوسع لم يتخلّف عن معركة، من فلسطين التي كان يوماً مورّداً للسلاح إلى مقاوميها، إلى العراق وسوريا حيث دافع عن المقاومة وخطوط إمدادها التي اتّضحت اليوم أكثر فأكثر أهميّتها، ثم عودة إلى «موطنه الأصلي»، التلال التي عشقها في الجنوب، حيث قاتل حتى الرمق الأخير. حياته حافلة بما لا يمكن اختصاره ببضعة أسطر، وهي نفسها تختصر ما عاشه الجنوب ولبنان والعالم العربي خلال الصراع الطويل مع العدو.
«بو نعمة» القائد الفذّ الذي أمضى حياته يلاعب الموت، كان محبّاً للحياة، مقبلاً عليها، له وجه آخر، بسيط، ودود، بشوش. يحبّ الناس، والبسطاء منهم على الأخص، يمازحهم، يشاركهم شؤون حياتهم، أفراحهم وأحزانهم، يساعدهم بقدر ما يستطيع، من دون منّة. ولأنه كذلك، كان محبوباً من الناس، وكان كثيرون يعتبرونه سنداً خاصاً، ذخراً لهم في وجه الصعاب، يسألونه بكل راحة، من دون حرج، وهو يجيب بكل رحابة صدر. ومثلما كان مدافعاً عن لبنان في المقاومة، كان مدافعاً لا يلين عن الأخيرة في لبنان، يعرفها مثلما هي، يدرك بالتجربة الطويلة أن ثمة ما هو ممكن لها أن تفعله مما يطالبها به بعض الناس، وثمة ما هو غير ممكن، وثمة ما يجب الانتظار حتى يتحقّق، كما هو دأب المقاومة التي قد يظنّ البعيدون عنها أنها تملك عصاً سحرية تمكّنها من فعل أيّ شيء، في أيّ وقت، فيما من أفنوا حياتهم فيها وتعبوا في بنائها يعرفون أنّ الإنجاز بحاجة إلى وقت وإلى تراكم.
كان لـ«بو نعمة» رفيق دائم، ربما افتقده في الأشهر الأخيرة، هو بحر صور في الصباح الباكر، حين يكون عشاق البحر الآخرون نياماً. وعندما كان يبتعد في عمق الماء عن الشاطئ، أغلب الظن أنه كان يبوح بمكنونات صدره لحافظ الأسرار التي لا يفهمها كثيرون من البشر. وأما السرّ الأخير فيبدو أنه احتفظ به لتراب حدّاثا وسيفشي به إليها حين يأوي إلى مسكنه الأخير، بعد وداع الأهل والأحبّة والأصدقاء.