في عام 2007، وصلتنا من فلسطين مجموعة من التسجيلات لتجارب موسيقية فلسطينية، منوّعة جداً من حيث النمط، لكنها تنتمي كلّها إلى النموذج غير الاستهلاكي. فالموسيقى، أو تحديداً الأغنية التجارية، هي في الأساس حالةٌ وجودُها شبه معدوم على الساحة الفنية الفلسطينية (بخلاف عدد من الدول العربية، على رأسها مصر ولبنان، إضافة إلى سوريا التي انضمت لاحقاً إلى موجة الأغنية الهابطة شعراً وموسيقى ودول الخليج التي لم تعرف، تقريباً، نمطاً غيره). التسجيلات وصلتنا على أسطوانات مدمجة (CD) بنسخ أصلية، مشغولة بحرفية لناحية الشكل. أما المضمون فانقسم إلى: الغناء/ الموسيقى التراثية بالشكل التقليدي أو المعاصر، أغاني للأطفال، تجارب آلاتية هجينة، عزف منفرد على آلات شرقية (عود أو بزُق)، وحتى تجربة عربية غنائية بقالب كلاسيكي غربي (بيانو وصوت)… إلخ. كانت التسجيلات بغالبيّتها جديدة نسبياً، تعود إلى سنوات قليلة، باستثناء واحد يعود إلى عام 1987.
(جمال الأبطح ــ 1988)

أي إنها تعكس، بشكل أو بآخر، الحالة الفنية الموسيقية الفلسطينية بين أواخر تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة. على كتيّبات هذه الأسطوانات، نقرأ الكثير من الأسماء المشتركة، بمعنى أنها تنتمي إلى «مجتمع» موسيقي واحد، محوره «المعهد الوطني للموسيقى» في القدس وفروعه (أصبح لاحقاً «معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى»). إجمالاً، عندما يحصل سمّيعة الموسيقى على تسجيلات جديدة، تأخذ الأمور المسار الآتي: استماعٌ أول للاكتشاف ولتحديد العناوين التي تبدو جذّابة أكثر من غيرها، ثم مشاركة هذه «المختارات الجذابة» مع الأصدقاء. بطبيعة الحال، استمعنا إلى التسجيلات بترتيب منطقي وَضَع أغاني الأطفال في أسفل اللائحة، على اعتبار هذا النمط، ليس من الناحية الشعرية فقط، بل الموسيقية أيضاً، لا يشكل موضع اهتمام لعازبٍ علاقته مع الطفولة معدومة حكماً. لكن المفاجأة كانت، أنه بعد «الجردة» الأولية، رحنا ننظم جلسات السمع التي باتت أغاني الأطفال الفلسطينية محطة ثابتة فيها. وقد كنّا أرشق من نورييف في الانتقال من فيروز إلى جاك لوسييه، من ديزي غيلسبي إلى موزار، من محمّد صدّيق المنشاوي إلى الروك الصناعي الألماني، من زياد الرحباني إلى كارايان، من القصبجي إلى باغانيني، من شوبان إلى غينسبور، من نينا سيمون إلى الشيخ إمام، من سامي الشوّا إلى غلَن غولد، من باخ إلى نصري شمس الدين، من «نساء تطوان» إلى بيتهوفن… ومن كل هذه «الخبصة» إلى أغاني الأطفال، من دون أن يهبط مستوى «النغنشة الموسيقية» في الروح. دامت هذه الحال أشهراً عدة، ثم تعدّلت «لوائح السمع»، وغابت عنها لمدة هذه الأغنيات التي ليست «لعمرنا»، قبل أن يبدأ الأصدقاء بالزواج والإنجاب تباعاً، الأمر الذي أعاد أغاني الأطفال الفلسطينية إلى «الضوء»، لكن هذه المرّة على شكل هدية ليسمعها من صُنعَت من أجلهم، من جهة، وكانت، من جهة أخرى، حجّة من جانبنا لاستعادة أجواء 2007/2008.
إذا أردنا اختصار كل ما تقدّم بكلمة فستكون: القمر. في أي لغة يؤتى على ذكر القمر، تليه المدائح والغزل. في أي لغة وفي أي عصر وأي حضارة، القمر معشوق وجميل وبهيّ. ربما هناك استثناءات لا نعرفها. لكن هذه هي القاعدة والكل يدركها ويسلّم بها. إلا في فلسطين: القمر يُهجى! لا جزافاً، بل عن حق وواقعية. فواحدة من الأغنيات التي سمعناها عشرات المرات، نحن شلّة الراشدين، كان عنوانها «القمر». الأغنية من ألبوم «مطر» الذي غنّته الطفلة (آنذاك / 1998) زينة عمرو برفقة جوقة من أربعة أطفال. إنه الألبوم الثاني الذي أنجزه سهيل خوري للأطفال، بعد «فرح» (1987) و«بس شوي» (2003)، اللذين كان أيضاً لهما حصّة في جلساتنا. وضع خوري موسيقى هذه الألبومات لحناً وتوزيعاً، وعزف جميع الآلات في الأول والثاني (ناي، عود، بزُق، بيانو، غيتار باص، غيتار، طبلة، مزهر وآلات أخرى) في حين انضم إليه في ألبوم «بس شوي» موسيقيون آخرون. صحيح أنّ المدخل الأول إلى خياراتنا من هذه الأعمال كان موسيقياً، بين اللحن والإعداد الموسيقي، لكن، كان لا مفرّ من المدخل الثاني المتمثّل في النصوص، التي تشكّل بحدّ ذاتها مفاجأة لمن سبق أن استمع مصادفةً إلى أغاني أطفال من الوطن العربي والعالم، حيث يغلب على الشعر الفانتازيا أو الطبيعة أو التفاهة والسطحية أيضاً، على اعتبار أن الطفل مخلوق ناقص من حيث الفهم والذكاء أو هائم دائماً بين الفراشات والخيال.
غلب العمق والواقعية والدعوة للتمرّد على أغاني الأطفال

أما في الحالة الفلسطينية، فقد غلب على الشعر العمق والواقعية والإنسان واللعب والجانب التربوي (موسيقي، علمي،…) والمجتمع والعادات الفلسطينية والتمرّد على المفاهيم والوعي الاجتماعي والاستقلالية واللغة والأرض والأعياد والفصول والحيوانات، إلخ. النصوص (بالعامية الفلسطينية بشكل أساسي وبالفصحى) فيها فكاهة وجدّ، فيها حزن وفرح، مكتوبة بذكاء وتتعامل باحترام ومسؤولية تجاه الطفل، وتحمل توقيع عدّة شعراء… وأغنية «القمر» كتبها خالد جمعة: «الليلة الدنيا قمرها كبير/ ونجوم تلألِئ حَواليه/ كان نفسي لو بعرف أطير/ وانزل أتفرّج عليه». حتى الآن، كل شيء طبيعي. أي طفل قد تكون له هذه الأمنية. يتابع: «بس مبارح شفت كتاب/ جوّاتو مرسومة اقمار/ صخر مبيّن زيّ انياب/ ولا في مَيّي (مياه) ولا أشجار». هنا يبدأ الاستغراب والريبة، لكن أيضاً أي طفل قد تساوره هذه الشكوك. يلي ذلك، الشعور بالخيبة، وهو نتيجة طبيعية لتاريخٍ من الغزل والاحتفاء بالقمر: «كنت اتصوَّر قمري يكون/ مليان ورود وأزهار/ وِانّو في ناس ومَسْكون/ وبتِجْري فوقو الأنهار». وتأتي في الختام الضربة القاضية، على حلبة الصراع الفلسطينية، في مباراة الأرض والقمر: «أرضي حلوة وفيها الخير/ منها بلاقي أهلي ودار/ منيح اللي ما بعرف أطير/ ما بدّي أسكن في اقمار».
هناك مثلٌ شعبي، له نسخ مختلفة عند الشعوب، والمقصود منه واحد، بما معناه: الله يعطي الطعام لمن ليس لديه أسنان. هذا اتهام واضح لله بالسادية، أو حتى بالسادية المزدوجة، إذ ليس المقصود أنه يعطي «الشيء» لمن لن يستفيد منه فقط، بل يحجبه عن المؤهّل للاستفادة منه. في الحالة الفلسطينية، يصبح المثل: الله يسرق الطعام مِن فم مَن لديه أسنان و«يدحشه» في فم مَن ليس لديه أسنان… إنه نوع ثلاثي الأبعاد من السادية، مصابٌ به مَن وَعَدَ «شعباً مختاراً» بأرض الذين لا تغريهم أقمار الكون مقابلها. إنها سادية عالمية تُستثنى منها حفنة… حفنةٌ ستعيدُ إلى الدارِ الدارَ وستمحو بالنار النار.