مرة أخرى، انطلقت العجلة السياسيّة لبهاء الحريري الذي يصل إلى بيروت اليوم. هي المُحاولة الرابعة لنجل الرئيس رفيق الحريري، بعد تجارب فاشلة وخيارات سيئة ومُستشارين بلا فطنة كدّسوا في جيوبهم الأموال وهشّموا صورته شعبياً. رغم الكبوات، وهي كثيرة، لا يزال الحريري يحلم باسترجاع «الإرث المسلوب». صورته يخاطب المشيّعين بـ«يا أيها القوم» لا تزال تحزّ في نفسه، هو الذي ظنّ أنه وريث طبيعي قبل أن تُسحب «اللقمة من الفم» على أبواب الديوان الملكي، و«يُنصّب» شقيقه الأصغر، سعد، على عتبة قصر الإليزيه. الصّدمة تكرّرت بعد 12 عاماً، عند احتجاز سعد في الرياض وارتفاع أسهم بهاء في دوائر القرار السعوديّة، قبل أن تُجهض عائلة الحريري آماله بالبيْعة.
خيبات كانت كفيلة بإبعاده عن المشهد لسنوات، قبل أن يجد في اندلاع الاحتجاجات الشعبيّة عام 2019 واستقالة شقيقه من رئاسة الحكومة، ثم اعتكافه، فرصة لاستعادة الزعامة المفقودة. سريعاً، «كزّ» خطاب الجمهور الذي كفر بالمنظومة السياسيّة، وقدّم نفسه كابن الحريري ذي الكفّ النظيف، الذي لم تلوّثه سلطة ولا صفقات سياسيّة. حينها، ظهر الشقاق بين الشقيقين إلى العلن بعد سنوات طويلة من انقطاع التواصل. «حرّر» ذلك النجل الأكبر من عهد الأخوّة، ومكّنه من الذهاب بعيداً في إطلاق المواقف، ومحاولة الانقضاض على «تيّار المستقبل» الذي تلقّى هزائم ماليّة وسياسيّة وشعبيّة على مدار السنوات.
عادت «روحه» إلى بيروت، فيما غاب جسدياً متذرّعاً بـ«محاذير أمنيّة» علّ ذلك يلمّ حوله جماهير العائلة التي خبرت القتل المأسوي لكبيرها. إلا أن ذلك لم يُجدِه نفعاً ولم يلمّ حوله جمهوراً في ظل استمرار الحضور الكبير لسعد، رغم تغييبه. وزاد الأمور سوءاً بعدما حلّت «ملائكته» بدلاً منه، مع كثير من علامات الاستفهام حول أسباب انتقاء أسماء مثل جيري ماهر ونبيل الحلبي حوله. مستشاران يملكان أذرعاً أمنيّة تمتد من سوريا (جبهة النصرة) إلى الإمارات، مروراً ببريطانيا، وصولاً إلى الكيان الصهيوني! غير أن الإطاحة بالمستشارَين لم تكن على ما يبدو بسبب تعلّم «الشيخ» من أخطائه، بقدر ما تؤكّد سوء علاقته بالعاملين معه الذين يتحدّثون عن مزاجه السيئ وانفعالاته وشخصيّته المُركّبة وغياب الصفات القيادية؛ لائحةُ المُطاح بهم طويلة، تبدأ بجمال عيتاني وجميل بيرم ولا تنتهي بسعيد صناديقي، وآلان بدارو وربيع الغوش...
هي نفسها أزمة فريق العمل التي تتكرّر كلّما فكّر الرّجل بأن يخطو خطوة باتّجاه بيروت. تجربة الانتخابات النيابيّة دليل على عدم تمتعه بنفَسٍ طويل: بعدما دفعته حماسته إلى الانخراط في المعركة وجرّ بعض المرشحين إليها لتركيب اللوائح وإنفاقه نحو 3 ملايين دولار، أقفل هاتفه وعاد إلى مونت كارلو، تاركاً خلفه مُطالبين بحقوق ماليّة، وآخرين استفادوا «على ظهره». مع ذلك، لم يخرج الحريري من الانتخابات بعبرة، فسرعان ما راوده «حلم لارنكا». ولأنّ المال ليس عقبة، حجز عشرات الطائرات الخاصّة والفنادق و«سحب» الجمهور إلى قبرص، قبل أن يعود إلى «بلاده» خائباً.

كيف اقتنع «الشيخ»؟
هي اليوم المحاولة الرابعة للحريري لدخول السّاحة السياسيّة. في البداية، حاول فريق عمله إقناعه بالعودة بعد استطلاعات رأي في الشارع السني أظهرت أن الجمهور يحتاج إلى «رجلٍ يمتلك علاقات عربيّة ودوليّة وغير مشارك في السلطة والفساد، ويمتلك ثروة ماليّة». هكذا، أوحوا له أنه «لا يوجد في الميدان سوى حديدان»، إلا أنّ رهبة اللقاءات الجماهيريّة أرعبته فعدل عن رأيه لتأتي مراسم عزاء زوج عمّته بهية الحريري وتقلب الأمور رأساً على عقب. لقاؤه بأبناء صيدا التي ترعرع فيها واللهفة التي أظهروها عند تقديمهم واجب العزاء دغدغا مشاعره، فاقتنع بأنّ زمن «يا قوم» صار وشيكاً. سرعان ما بدأت التحضيرات ولقاءات فريق عمله فاعليات في بيروت والمناطق للاتفاق معهم على اجتماعات طويلة يحضرها الحريري. وبعد إقناعه بشراء منزل لتكون له رمزية في بيروت، فلا تقتصر إقامته على الفنادق، دفعته حماسته إلى طلب شراء أكثر من منزل في بيروت والمناطق!
في الشّكل، يوحي الابن البكر لرفيق الحريري بأنّه تغيّر. اختياره فريق العمل هذه المرّة لم يكن عشوائياً. انتقى رجلين يملكان مسيرة مهنيّة طويلة وحيثيّة اجتماعيّة مع «حسن سلوك»: رياض الشيخة ونجيب أبو مرعي. الأوّل هو المدير العام السابق للمنشآت الشبابية والرياضية الكشفية في لبنان وابن شقيق المدير العام السابق للمراسم والعلاقات العامة في رئاسة مجلس الوزراء، عبد الرحمن الشيخة، والثاني هو المنسق السابق لقطاع النقابات العمالية والزراعية في «تيار المستقبل»، وصاحب رحلة مهنيّة طويلة في «بنك البحر المتوسّط».
تمكّن الشيخة وأبو مرعي من فتح أبواب «المستقبل» أمام الملياردير اللبناني الذي طلب أن يكون قطاع الشباب في التيّار هو الهدف. وعلى الطريق، «تسلّلا» إلى عدد من المستقبليين القدامى، كمسؤول الجامعات والطلّاب السابق، خالد الحاج، قبل أن يتراجعوا تحت ضغط «حرق أوراقهم» بمساندة رجلٍ خائب لا يحمل رؤية سياسيّة. ومع ذلك، لم يرفع الشيخة وأبو مرعي «الراية البيضاء» بل تواصلا مع العديد من الشخصيات السياسيّة والاجتماعيّة و«الحردانين» من أداء «المستقبليين»، وصولاً إلى صيادي أسماك ميناء عين المريسة الذين رفضوا الإدلاء برأيهم قبل رؤية الإنجازات بأمّ العيْن.
ومن بيروت انتقل فريق العمل إلى المناطق، وكانت العيون مصوّبة على الشمال، خزّان «التيّار الأزرق»، حيث لبهاء الحريري «صديق» سلّفه انتخابات بلديّة عام 2016: النائب أشرف ريفي. والأخير، كبهاء، يُريد فرصة للثأر من سعد ويلتقي معه على موجةٍ واحدة ضد حزب الله. «شحمة على فطيرة» جعلت من ريفي يعمل ليل نهار من أجل تأمين لقاءات فريق عمل بهاء مع فاعليات شماليّة في «منتجع ميرامار» منذ أيّامٍ قليلة، تحضيراً للقاءات الحريري الموسّعة.
كلّ هذه التحضيرات تركت أملاً لدى المقربين من بهاء بأنّ النجاح محسوم هذه المرة، طالما أن «الناس يريدون أن يسمعوا بهاء وأن يسمعهم». بنظرهم، ظُلم «قائدهم» على مرّ السنوات السابقة، «وأدت الحملات الإعلاميّة ضده إلى ضرب صورته، هو الحالم بإحياء مسيرة والده. ولذلك، ستبدأ عمليّة تصويب الخيارات وطرح رؤيته السياسية والاقتصاديّة». يُدرك هؤلاء أنّ المهمّة صعبة في ظلّ حربٍ على الأرض وفي الإعلام يقوم بها مسؤولو «التيّار» الذين يتهيّبون الزيارة.

سعد: اتركوا بهاء
هذا الخوف بادٍ على وجوه «مستقبليين» الذين يُلاحقون تفاصيل اللقاءات التحضيريّة، وإن كانوا مؤمنين بأنّ «الشيخ» لن يتغيّر: شخصيّة صلفة مع خبرةٍ سياسيّة صفر يدل عليها فشل تجاربه السابقة وخياراته السيئة، ما أدى إلى انخفاض الإقبال الجماهيري. وهم متيّقنون من أن غياب الكاريزما والخطاب الشعبوي من دون رؤية واضحة، بالإضافة إلى غياب دعم عربي ودولي، لن تجعله شريكاً مُضارباً في «الصحن الأزرق» ولا زعيماً يحلّ في الوقت الضائع، وخصوصاً أنّ الانتقادات التي يوجّهها لشقيقه الأصغر في الهزائم المالية والسياسية تطاوله أيضاً.
سعد الحريري طلب عدم القيام بأي ردود فعل على الزيارة وترك الأمور لمصيرها بالفشل المحتوم

ولذلك، تشير المعلومات إلى أنّ سعد الحريري أبلغ مسؤوليه ضرورة عدم القيام بأي ردود فعل على الزيارة، وترك الأمور لمصيرها، مع اعتقاده بفشلها المحتوم، وذلك بعدما وصل إلى مسامعه عدم التجاوب الشعبي مع الدعوات للقاء بهاء وأرجحية عدم تلبية العدد الأكبر منهم للاجتماعات.
في المقابل، يتفاءل المقربون من النجل البكر بعكس ذلك، ويدعون إلى انتظار لقاءاته الشعبيّة التي ستمتد لـ 20 يوماً، يبدأها غداً من فندق «فينيسيا» في بيروت (على مدى 3 أيّام)، على أن ينتقل بعدها إلى «منتجع ميرامار» في الشمال (يومان) ، ثم المنية (يومان) فالضنية (يومان)، وعكّار (4 أيّام). ومن الشمال سينتقل الحريري إلى البقاع (3 أيّام)، ثم ساحل إقليم الخروب (يومان)، فصيدا (يومان). وُينهي الحريري زيارته بمؤتمر صحافي يُعلن فيه عن رؤيته وبرنامجه. فيما لن تتخلّل هذه اللقاءات أي اجتماعات مع حزبيين أو رسميين.
وتشير المعلومات إلى أنّ الحريري سيعود بعد ذلك إلى موناكو ليبدأ اجتماعاته عن بُعد مع فريق عمله لتقويم نتائج لقاءاته الشعبيّة وردود الفعل حولها وإنهاء التحضيرات لإطلاق «تيّار المسار» الذي سيرأسه.



«شيخ الإنكليز»؟
يراهن البعض على حصان بهاء الحريري الآتي من موناكو إلى بيروت لتعبئة الفراغ في الشّارع السني، فيما آخرون مقتنعون بأنّ الرجل سيذهب كما أتى، مع هزيمة جديدة تُضاف إلى سجلّه الحافل بالخيْبات، وخصوصاً أنّ النّجل الأكبر للرئيس رفيق الحريري لا يحظى باهتمامٍ عربي أو غربي. ولم ينسج علاقاتٍ دوليّة يركن إليها في «الأيّام السود». وحتى الإمكانيّات الماليّة التي وضعها في «مركز رفيق الحريري ومبادرات الشرق الأوسط في واشنطن» لفتح الأبواب أمامه في دوائر القرار في البيت الأبيض والكونغرس، لم تأت بنتيجة، ولم يأخذه الأميركيون على «محمل الجد».
مع ذلك، لا يملّ بهاء من السعي إلى «التشبيك» الدولي، عبر مستشاره دانيال الغوش الذي رقّاه أخيراً من مستشار إعلامي إلى مستشار سياسي، مع ما يُمكن أن يُقدّمه له الأخير من ارتباطات مع أجهزة أمنيّة غربيّة وإقليمية. ورغم تأكيد البعض أن لا مظلّة سياسيّة عربيّة أو دوليّة لأحلام الحريري، إلا أنّ الكثير من علامات الاستفهام تحيط علاقته بالبريطانيين. فخلال زيارته الأخيرة لبيروت للمشاركة في مراسم عزاء زوج عمّته النائبة السابقة بهيّة الحريري، تنقّل الرجل بين مجدليون وفندق «فينيسيا»، باستثناء زيارة يتيمة للسفير البريطاني هاميش كويل، في مقر إقامته، «وعرض معه الأوضاع العامة ولا سيما المستجدات السياسية والإقليمية»، بحسب بيان صادر عن المكتب الإعلامي للحريري.
الزيارة كانت بدعوة من كويل وليس بطلبٍ من الحريري. وهي إشارة إلى اهتمام البريطانيين المُباشر ببهاء، إذ تؤكد مصادر أن علاقة وطيدة تجمع «الشيخ» بالإنكليز الذين يولونه اهتماماً استثنائياً، وصلت إلى حدّ قيام مسؤولين في السفارة البريطانيّة بزيارات دوريّة لمكتب الحريري في وسط بيروت، للتدقيق في التحضيرات اللوجستيّة والماليّة لزيارته.