بالنسبة إلى الغرب، لم يعد مجدياً احتساب عدد أيام الحرب، لا في غزة ولا في لبنان ولا في الضفة الغربية. كما لم يعد مجدياً مراقبة عدّاد شهداء المجزرة المفتوحة. ما يهمّ الغرب، اليوم، هو السؤال عن جدوى ما قامت به إسرائيل. وإذا كان مستحيلاً على أحد في كيان العدوّ الحديث عن سحق المقاومة، فإن سؤال الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يتركّز على ما إذا كانت مهمّة «كيّ الوعي» قد تحقّقت. إذ إن جوهر كل الاتصالات الجارية باسم «مفاوضات تبادل الأسرى» أو «اليوم التالي» أو حتى برامج إعادة الإعمار، يقوم على فكرة واحدة: هل تعلّم الفلسطينيون الدرس، وأعلنوا التوبة عن معاودة مهاجمة إسرائيل مرة جديدة؟مشكلة العدوّ نفسه، كما مشكلة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، أن عملية «كيّ الوعي» تبدو أصعب من مهمة سحق المقاومة نفسها. وبعض المشاركين في الاجتماعات التي يحضرها غربيون، ينقلون دهشة هؤلاء وتساؤلهم: «كم من الموتى يلزمهم ليعلنوا الاستسلام؟». وينطلق أصحاب هذا المنطق من فكرة أن القوة هي التي تسود في نهاية الأمر، ويعتبرون أن القوة التي بيدهم لا تضاهيها قوة عند المقاومين، وأن صورة الدمار الشامل تكفي لفرض الاستسلام.
ربما يعتبر كثيرون أن الحديث عن صمود المقاومين والناس ضرب من خيال المعنويات الذي اشتهر به العرب. لكن ما فات مجانين العصر، أن الفكرة التي رسّخها العدوّ في أذهان جميع أعدائه هي أن على الجميع التسلّح بالقوة، كونها الأداة الوحيدة التي تنفع في وجه إسرائيل وأميركا. وما يخشاه الغربيون عملياً هو أن يجدوا صنوف أعدائهم يعملون ليل نهار على حشد أكبر قوة ممكنة، تكون كافية لإزالة هذا الكيان.
ثمّة دروس كثيرة من الحرب الجارية. لكن أهم ما يخشاه الغرب هو الخلاصة الأهمّ عند أهل المقاومة، بأنّ تعزيز القدرات على أنواعها بات هدفاً رئيسياً لا يتقدّم عليه أيّ هدف آخر، وأن أحداً لم يعد يفكّر بتسوية ولا بحلٍّ سياسي ولا بعلاج إلا باستئصال إسرائيل من جذورها. صحيح أنها مهمة كبيرة جداً. لكن مجرد أن يستعيد العرب الفاعلون (هم طبعاً غير العرب القاعدين) خطاب الثورات الأولى في وجه الاحتلال، فهذا يعني أن حمل السلاح لم يعد خياراً ثانياً أو إضافياً، بل صار الخيار الوحيد أمام من يريد التخلّص من هذا الجنون!
مردّ الكلام هو استباق النقاش الكيدي الذي يريد الغرب أن يفرضه على أهل فلسطين والمقاومة من زاوية البحث عن حل سياسي، أو فرض هدنة طويلة الأمد، وسط خشية من تعاظم حالة الإحباط بين عرب أميركا، الذين هالهم فشل مشروع سحق المقاومة، والذين سبق أن جرّبوا حظّهم في لبنان، وخصوصاً بعد عدوان 2006. وهؤلاء يعرفون أن سلاح الفتنة الذي يريدون استعماله لتأليب الناس على المقاومة سيطيح بهم أولاً قبل أيّ أحد آخر. وربما بات كثيرون على بيّنة من أن استقرار النظام العربي لا لزوم له، إذا كانت وظيفته حماية الاحتلال وقمع المقاومين. وهو شعار سيتحوّل الى برنامج عمل في غالبية دول الطوق، وحتى في دول أبعد عن القدس أيضاً، لكنه بات خياراً إلزامياً في سياق معركة تعزيز القدرات في مواجهة نوع كهذا من الأعداء.
في فلسطين، ثمّة نقاش كبير حول ما يجب أن تقوم به المقاومة بعد توقف الحرب. لكنّ المحزن أن من يناقش الأمر ويطرح الأفكار ليس هو من يقاتل في الميدان. والأمر يلتبس على البعض عند الحديث عن واجب المقاومين حول ما يسمّى اليوم التالي، وهو حديث يقوم على قاعدة أن اليوم التالي هو يوم الصمت، بينما هو في عرف المقاومة يوم تالٍ لما قبله، حيث لا أولوية تتقدم على أولوية تعزيز المقاومة وتطوير قدراتها. وباب حسن النية قد يكون مفيداً للفت انتباه بعض السذّج الى أن الحديث عن إعادة الإعمار وإطلاق دورة الحياة الأفضل للناس ليس هدفاً مستقلاً أو مانعاً لتطوير قدرات المقاومة. وببساطة شديدة، فإن صورة غزة في يوم ما بعد وقف الحرب المجنونة هي ورشة كبيرة ومتوازية: ورشة إعادة إعمار غزة من فوق، وورشة تعزيز وتطوير بنية غزة من تحت. ومهمة تعزيز قدرات المقاومة ستفرض جدول أعمال على كل من يريد نصرتها ومدّها بالعتاد، وهي مهمة تتطلّب حكماً كسر الحواجز القائمة من قبل العدوّ نفسه، أو من قبل أنظمة وحكومات وأجهزة عربية أو إسلامية أو غربية تشارك مع العدوّ في أصل مهمة سحق المقاومة.
معركة تعزيز المقاومة في فلسطين قائمة ولو تطلّبت هزّ استقرار أنظمة وعروش و«أوكار القاعدين»


الحديث نفسه ينطبق على لبنان. وإذا كان صعباً التكهن بمآلات المواجهة الجارية عند الحدود مع العدوّ، فإن المتيقّن هو أن المقاومة تستعدّ لكل الاحتمالات، بما فيها احتمال الحرب الشاملة. لكنها، وهي تفعل ذلك، تهتم في كل لحظة بتطوير عناصر قوتها. وهي مهمة ستكون أكبر في حال توقف الحرب، وهدفها واحد أحد: تعزيز قدرات المقاومة بأكبر قوة نارية وتكنولوجية ممكنة. وهي مهمة لن يكون بمقدور أحد وقفها أو تعطيلها، وكل من يحاول ذلك، يضع نفسه في خانة الأعداء، ويجب التعامل معه على هذا الأساس.
في لبنان نقاش لن يتوقف حول مستقبل البلاد وموقعها في الصراع الكبير. وإذا كانت الحرب القائمة اليوم قد عزّزت اقتناع المقاومة وأهلها بالخيار الوحيد لمواجهة العدوّ، فإن المؤشرات لا تدلّ على أن الفريق الآخر استفاد من الدرس، بل ربما تعرّض هؤلاء لمزيد من «كيّ الوعي» وهم يشاهدون المجزرة الإسرائيلية اليومية، وتراهم ينسحقون أكثر في برنامج الخضوع للرجل القويّ في العالم.
لكن هذا النقاش، وإن لم يكن هناك من يريد تحويله الى صراع، لن يقوم وفق قواعد تفرضها الولايات المتحدة ومعها أوروبا الاستعمارية. وبالتالي، فإن كل بحث في ترتيبات أو إجراءات مفترضة على طول الحدود مع فلسطين، هو بحث عقيم إذا انطلق من فكرة طمأنة العدوّ أو محاصرة المقاومة. بل ربما من المفيد تسهيل الأمر على أعداء المقاومة، داخل لبنان وخارجه، بالقول صراحة: إن مسألة الحرب والسلم باتت مرتبطة بأصل وجود إسرائيل، وليس بكيفية التعامل معها. ووجود الكيان هو إعلان دائم للحرب، وكل نقاش آخر لن يكون له مكانه في حضرة أهل المقاومة.
ما يحصل اليوم يحسم جدلاً قائماً منذ 75 عاماً حول طريقة التعامل مع إسرائيل وداعميها. وحتى لا يقول أحد لاحقاً إنه تعرّض للغش أو الاحتيال، فإنّ على اللبنانيين، وغيرهم من أبناء المنطقة، التصرف على أساس أن سلاح المقاومة هو قدس الأقداس. ومن يمسّه يكون كمن أصابه مسّ من الجنون الإسرائيلي... وليس بعد هذا من حاجة الى كلام!