الحملة على الصرافين لن تؤدّي إلى أيّ نتائج مستدامة على سعر الصرف. صحيح أنه قد تظهر نتائج ظرفية، لكن ذلك لن يستمر طويلاً كون أصل المشكلة مرتبطاً بعملية ضخّ الدولارات والليرات في السوق وامتصاصهما، فيما نسبة التأثير المرتبط بقنوات الضخّ والامتصاص ليست كبيرة. بهذا المعنى، يمثّل الصرافون - المرخّصون وغير المرخّصين - هذه القنوات، فيما يقود مصرف لبنان عمليتَي الضخّ والامتصاص بقدرات محدودة. وبشكل أوضح، ليس بإمكان هؤلاء الصرافين التحكّم بسعر الصرف إلا ضمن هوامش ضيّقة ترتفع وتنخفض انسجاماً مع توافر الدولارات والليرات في السوق، أي مع آليّة العرض والطلب المرتبطة بعملية الضخّ والامتصاص التي يقودها مصرف لبنان. وهم يستغلّون هذه الآليّة لتحقيق أرباح إضافية، تمثّل هامش السعر للمضاربين والذي لا يتجاوز 10% من السعر الإجمالي. لكن هؤلاء لا يمكنهم صنع مسار مؤثّر على سعر الصرف.أما من يعتقدون بأن العلاج يكون بقمع الصرّافين كإجراء وحيد، فيمكنهم العودة إلى الحملات التي قادتها الجهات القضائية والأمنية في السنتين الماضيتين، بطلب من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والتي أدّت إلى نجاح بنسبة ضئيلة، قبل العودة سريعاً الى الانفلات الكبير وفشل محاولة كبح الطلب على الدولار بالتزامن مع تسجيل سعر الصرف قفزات كبيرة متواصلة.
من جهة أخرى، تظهر الوقائع أنه على عكس ما يجري ترويجه، فإن حركة الأسواق خلال السنوات الماضية تجزم بأن مصرف لبنان هو من يشتري الدولارات من السوق لأن لديه حاجات أساسية ليس قادراً على تغطيتها من موجوداته بالعملة الأجنبية، وهو كان ولا يزال يبدّد الاحتياطي، وقد صرف حتى الآن أكثر من 20 مليار دولار منها، ما يضطرّه عملياً إلى اللجوء إلى السوق لشراء الدولارات في إطار المادة 75 من قانون النقد والتسليف التي تتيح له التدخّل في السوق بائعاً وشارياً للعملات الأجنبية.
لكن المصرف يفعل ذلك عبر الصرافين الذين بنوا شبكات مرخّصة وغير مرخّصة لجمع الدولارات المتوافرة، وصولاً إلى تسليم وتسلّم الكميات بواسطة نظام الـ«دليفيري»، من دون أن يعني ذلك أن الصرافين يحدّدون سعر الصرف، رغم أنهم بالتأكيد زادوا هوامش أرباحهم من عمليات البيع والشراء. فمَنْ يقوم بالتسعير هو مصرف لبنان، بالإضافة إلى تأثر السعر بعاملَي الندرة والثقة في السوق. فعندما تكون كمية الدولارات المطلوبة أقلّ مما هو متوافر في السوق، يزيد سعرها في ظل اقتصاد رأسمالي حرّ. وإذا كانت الثقة معدومة بالعملة الوطنية، فإن سعرها سيتدنّى أيضاً، إذ لا ثقة بأن الليرة ستحافظ على قيمتها وقوّتها الشرائية على المدى القصير الذي لا يتجاوز بضعة أيام. والواقع أن العاملين معاً متوافران في الحالة اللبنانية.
فرضية أن للصرافين دورهم المؤثر على سعر الصرف تعني أن مصرف لبنان كان قادراً على كبح جماح سعر الصرف من خلال تراخيص الصيرفة الخمسة التي منحها قبل أكثر من سنة لمجموعة تعمل لحسابه في شراء وبيع الدولارات، أو حتى من خلال المؤسسات المالية القائمة التي تعمل لحسابه أيضاً في شراء الدولارات من الجمهور. لذلك فالمسألة ليست تنظيمية، ولا تتعلق بالآليات، إنما هي بنيوية متعلقة بقدرة الاقتصاد على اجتذاب الدولارات وعلى استهلاكها. إذ إن كمية العملات الأجنبية التي تأتي من الخارج معروفة ومحدودة، كما أن الطلب الداخلي على السلع التي يسدّد لبنان ثمنها بالدولار معروفة أيضاً، ونتيجة الأمرين عجز كبير في كمية الدولارات المطلوبة، ما يبرّر استمرار تدهور سعر الصرف. لذا، فإن طريقة العلاج اقتصادية - مالية وليست أمنية.
أما رغبة مصرف لبنان في التعامل مع الصرافين و«تأديبهم» فتأتي على خلفية تخطّيهم حدود المضاربة التي يقرّرها هو في السوق، ولا سيما أنه ترك هوامش للمضاربة بين أسعار الصرف المتعددة. وهذا الأمر حصل في السنوات الماضية حين استُدعي كبار الصرافين المرخّصين (سرور وحلاوي وغيرهما)، وجرت مداهمة مقارّ ومنازل بعضهم وصودرت منها ملايين الدولارات، غير أن هذه الخطوات لم تؤدّ إلى نتائج واقعية وملموسة على سعر الصرف الذي سجّل مزيداً من التدهور.
المصرف المركزي حوّل كل أصحاب الحسابات المصرفيّة إلى صرّافين صغار


السؤال الذي يمكن طرحه هو الآتي: لماذا يطلب حاكم مصرف لبنان من السلطات مداهمة الصرافين طالما أن لدى لجنة الرقابة على المصارف جهازاً كاملاً لمراقبة الصرافين ومعرفة عملياتهم، أم أنه يوارب القول بالإشارة إلى أن الصرافين غير المرخصين هم وحدهم يرفعون السعر؟
بحسب اللوائح المنشورة على موقع مصرف لبنان، فإن لائحة مؤسّسات الصرافة المرخص لها تزيد قليلاً على 300 مؤسّسة تحمل ترخيصاً بموجب قانون تنظيم الصرافين الرقم 347 والنظام التطبيقي له. والصرافون ممنوعون من فتح حسابات مصرفية لمؤسساتهم، وبالتالي لا تخضع سجلاتهم وقيودهم لأحكام قانون السرية المصرفية. هنا تجدر الإشارة إلى أن ما يقوم به مصرف لبنان هو تحويل أصحاب الحسابات المصرفية إلى صرافين. أليست العمليات الجارية على «صيرفة» من خلال المصارف هي عمليات صيرفة؟ فأن يتاح لأصحاب الحسابات أن يودعوا ما يشاؤون من ليرات مقابل تحويلها إلى دولارات على سعر أدنى من سعر السوق، ليس إلا عمليات صرافة علنية وصريحة. هذه العمليات التي كبّدت مصرف لبنان خسائر تفوق 200 مليون دولار في نسختها الأخيرة قبل بضعة أسابيع، جرت بقيادة مصرف لبنان، وحوّلت أصحاب الحسابات المصرفية إلى صرافين صغار لديهم هامش محدّد من الأرباح تشاركهم عليه المصارف.

كل هذا من أجل ماذا؟
لدى مصرف لبنان خطة بائسة عرضها على رئيس الحكومة تقضي بأن العمل على استقرار سعر الصرف يقتضي إخراج الدولارات من المنازل التي يقدّرها بنحو 8 مليارات دولار، وأن هذا الأمر لا يمكن أن يحصل من دون «تنظيف» السوق من الصرافين الذين قد ينافسونه على جمعها. في البدء، سيتم تجفيف السوق من الليرات. وسيضخّ المصرف المركزي نحو 1.5 مليار دولار ثمناً لنحو 60 تريليون ليرة سبق لسلامة أن ضخّها في السوق. والهدف خفض سعر الصرف، ثم دفع الناس إلى استعمال الدولارات المخزنة التي ينتظرها مصرف لبنان لجمع القسم الأكبر منها. والسذاجة في هذه الخطّة أنها تفترض أن سعر الصرف سينخفض إذا تخلّى مصرف لبنان عن الليرة. بينما ليس هناك ضمانة بأنه عندما يقرّر مصرف لبنان أن يسحب هذه السيولة، لن يكون للأمر مفعول عكسي في السوق يعمّق انعدام الثقة بالليرة ويدفع الجميع إلى الاستغناء عنها أيضاً ويخفض قيمتها أكثر تجاه الدولار.