بات ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون لرئاسة الجمهورية عنوان عدد غير قليل من اللقاءات التي تجري في لبنان وخارجه. تتولى فرنسا الدور الأبرز نيابة (بصورة مؤقتة) عن الولايات المتحدة وبتفاهم (غير كامل) مع السعودية. بينما اتفق على دور خاص لقطر، القادرة على الوصول إلى من لا يصل إليه الغرب والسعودية، لا سيما أن الدوحة عادت وعزّزت تواصلها مع قوى لبنانية عدة، بعضها بصورة معلنة وأخرى بعيداً من الأضواء. وكما كل مرة، يجري ترغيب اللبنانيين بأنه في حال حصول الغرب والخليج على مبتغاه من الاستحقاق الرئاسي، فإن هناك من سيتولى تمويل الاتفاق السياسي. وإذا تمنّعت السعودية، لأسبابها الخاصة، وخافت الإمارات كما الكويت من غضب محمد بن سلمان، فإن لقطر خصوصية تتيح لها التمايز، وحتى التفلّت من دون خشية عقاب آل سعود.عملياً، ليس سهلاً أن يتم الإعلان رسمياً عن ترشيح قائد الجيش. إذ أنه شخصياً ليس في وارد ذلك الآن، بل إنه، على العكس، يشدد على كل العاملين معه في المؤسسة العسكرية، وعلى أعضاء الخلية الإعلامية - السياسية القريبة منه، الامتناع نهائياً عن ترداد اسمه في كل المنتديات، ويترك لنفسه هامشاً لتواصل خاص مع القوى التي يهتم هو، كما غيره، بالحصول على دعمها أو موافقتها أو حتى عدم ممانعتها أي غالبية تتوافر لانتخابه.

(هيثم الموسوي)

لكن زوار العاصمة الفرنسية سمعوا هذه المرة كلاماً مباشراً عن أن جوزيف عون يمثل حيثية تسمح له بلعب دور خاص في المرحلة المقبلة. وزاد الفرنسيون أنه لا يجب التعامل معه على أنه مشكلة لأحد. فهو ليس سياسياً، ولا يمثل وجهة تجعله خصماً لهذا الفريق أو ذاك، ولديه تجربة في الجيش أتاحت له الحصول على دعم غالبية القوى السياسية ودعم «المجتمع العربي والدولي». وأضاف الغربيون على الفرنسيين مقولات من نوع أن البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي يميل إلى عدم تعديل الدستور مرة جديدة من أجل عسكري، يؤيد قائد الجيش إذا حصل على دعم سياسي من قوى مسيحية وازنة وعدم ممانعة غالبية إسلامية. ويستند آخرون إلى أن «القوات اللبنانية» سبق أن أعلنت على لسان رئيسها، سمير جعجع، عدم معارضة وصول قائد الجيش إلى رئاسة الجمهورية. بينما يتحدث الأميركيون بثقة عن أنهم يملكون كلمة السر لعدد غير قليل من النواب المستقلين الذين سيؤيدون قائد الجيش، وأن قسماً لا بأس به ممن يصوتون اليوم للنائب ميشال معوض لن يعترضوا على قائد الجيش، خصوصاً الأصوات التي تقول إن معركتها هي ضد حزب الله، وتعتبر أن قائد الجيش لعب دوراً ندّياً للحزب، ولم يسمح له بالتدخل في شؤون الجيش، كما كان حازماً معه في أكثر من مكان بما في ذلك أحداث الطيونة.
لكن ماذا عن مواقف الجبهة السياسية التي تمثل الثقل السياسي والانتخابي، وهي تضم قوى غير متآلفة تماماً، من الرئيس نبيه بري وحزب الله إلى وليد جنبلاط وصولاً إلى التيار الوطني الحر ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وبعض النواب المحسوبين على تيار المستقبل. إذ أن هؤلاء يفضلون توافقاً في ما بينهم على الرئيس المقبل. وبما أن موقف النائب جبران باسيل من ترشيح فرنجية يمثل عقبة كبيرة أمام تمرير ترشح الأخير، فإن دعوة باسيل إلى اختيار اسم آخر للتوافق عليه ليس محل اتفاق حقيقي. إذ أن بري وجنبلاط يرفضان اسماً يرشحه باسيل، ولن يكرّر فرنجية تجربة العام 2016، فيما حزب الله الذي يميل إلى فرنجية لن يكون مرتاحاً إلى أي مغامرة بتجربة تذكره بعهد ميشال سليمان.
وتمثل نقاط الاختلاف القوية بين أطراف هذه الجبهة نقطة الضعف التي يعمل عليها الغرب. صحيح أن السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا تشجع قائد الجيش على تفاهم مع حزب الله، كما أنه صحيح أن قائد الجيش قرّر فتح قناة اتصال أكثر وضوحاً مع الحزب، إلا أن كل ذلك لا يعني أن الحزب واثق من خيار كهذا. حتى كلام الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله عن الجيش الذي يرفض الضغوط الأميركية، يحمل عدة أوجه، بينها إشارة انتقاد إلى سلوك قيادة الجيش التي تقبل بأن يسرح الأميركيون على هواهم في مقر وزارة الدفاع، وتسمح للضباط الأميركيين بالتصرف بوقاحة والتدخل في معظم ملفات الجيش بحجة الدعم أو الإشراف على المساعدات.
من جهة أخرى، واضح بالنسبة إلى حزب الله أن جهة مثل السعودية التي ترفض إعلان موقف واضح من المرشحين، تضع مواصفات أوضح من كل الآخرين، إذ يقول السعوديون إنهم يريدون رئيساً لا يرضى عنه حزب الله، أو يخشاه حزب الله، ويقفل الأبواب أمام وصول الحزب إلى أي مؤسسة في الدولة، ويختار فوراً قائداً جديداً للجيش ومديراً للمخابرات وقادة أجهزة أمنية ممن لا تربطهم أي علاقة مع حزب الله. وفي مقابل هذه اللاءات، تقدم السعودية مغريات تتنوع بين توفير الدعم السياسي والمادي وصولاً إلى الحديث عن إحياء هبة الـ 3 مليارات دولار للجيش اللبناني التي أقرّها الملك الراحل عبدالله قبل أن يلغيها محمد بن سلمان.
مساع أميركية - فرنسية - سعودية لفرض جوزيف عون ولو تطلّب ذلك إحراج حزب الله والتيار الوطني الحر


مع هذه الحصيلة من الهواجس والشكوك والمبادرات الخفية، يظهر أن ترشيح قائد الجيش يحتاج إلى ضربة بداية قوية، كأن تعلن جهة بارزة، مثل البطريرك الماروني، دعمه علناً، ليلحق به آخرون من كتل نيابية وسياسية، قبل أن يصل الإمداد الديبلوماسي والسياسي الخارجي، وعندها يفتح باب المقايضات. وثمة نقاش جدي حول ما يردده الفرنسيون من أنهم على ثقة بالقدرة على إقناع بري وجنبلاط بالسير بقائد الجيش، وأن اعتراض باسيل وحزب الله سيشكل عنصر إحراج لهما وليس العكس. بالتالي، سنكون أمام محاولة غربية جادة لحشد تأييد سياسي ونيابي يتجاوز الـ 65 صوتاً، ليصار بعدها إلى حشر التيار الوطني الحر وحزب الله في الزاوية ودفعهما إلى خطوات لا تظهرهما في موقع المعارض لتسيير أمور البلاد.
قد يبدو السيناريو سهلاً بالنسبة للبعض. لكن فكرة القبول بحل ترعاه الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية يمثل نقطة خلاف ستقود حكماً إلى انفجار كبير. وفي حال كان الجميع يراهن على أن حزب الله والتيار الوطني الحر لن يقدما على خطوة تهدّد الاستقرار العام، فإن ذلك لا يلغي حقيقة أن انتخاب قائد الجيش بصورة قسرية، سيجعل لبنان أمام عهد جديد يبدأ يومه الأول مع كمّ كبير من المشكلات، وفي مواجهة معارضة قادرة على خلط الأوراق في كل يوم. وهذا ما يجعل الغربيين، وخصوصاً الفرنسيين، يفكرون بصيغة مختلفة من النقاش علّهم يصلون إلى تفاهم جديد.