عندما يتعذّر عليك أن تواجه عدوك، للصعوبة أو للكلفة والأثمان التي تتوقعها في المقابل، فالجأ إلى ردعه عبر تهديد مدنيّيه. هذه هي حال العدو الإسرائيلي في مواجهة حزب الله والساحة اللبنانية، حيث التهديد يعقب تهديداً، وإن كان هذه المرة خدمة لطمأنة المستوطنين بعد معادلة الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله: «الرد بالمثل وإن على المدنيين».هذا ما صدر عن وزير أمن العدو بني غانتس خلال جولة «تفقدية» للمنطقة الشمالية وتحديداً الفرقة 91 في الجيش الإسرائيلي، عاين خلالها الإجراءات والتدابير المتّخذة شمالاً في مواجهة لبنان. تخلل الجولة لقاء خاص، هو كما يبدو هدف الجولة، مع رؤساء السلطات المحلية الأعضاء في منتدى خط المواجهة على الجبهة الشمالية، التي يقدَّر أن تدفع أثمان أيّ مواجهة محدودة أو واسعة، مع حزب الله. ولفت حضور مساعد وزير الاستيطان آفي روئيه ورئيس وحدة الاستيطان وقائم مقام هيئة الإغاثة الوطنية نوحي مندل.
ولم يجد غانتس سبيلاً لطمأنة المستوطنين، إلا عبر إطلاق تهديدات موجّهة إلى لبنان واللبنانيين، في إطار رده غير المباشر على معادلة «الرد بالمثل» التي سُمع صداها جيداً في الكيان الإسرائيلي. وقال غانتس: «التقيت اليوم بسكان خط المواجهة هنا. صهاينة حازمون ومحبون لبلدهم. سنستمر في دعمهم ودعم هذه المنطقة الجميلة، وسنعطي أولوية لتحصين الشمال الذي هو جزء من قوتنا مقابل أعدائنا». وأضاف: «إذا تحولت تهديدات نصر الله إلى أفعال، النتيجة ستكون مؤلمة لحزب الله ولقادته، ولأسفي أيضاً للمواطنين اللبنانيين».
في الموازاة، جاءت تهديدات كادت أن تكون متطابقة، صدرت عن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، من دون أن يسمّي حزب الله ولبنان بالاسم. والتطابق هنا لافت وذو دلالات: «لن نساوم على تطوير صواريخ عالية الدقة في سوريا ولبنان. هناك من يهدّدنا بدفع ثمن مؤلم في إطار المواجهة، فإن تحققت تلك التهديدات، فسيكون ردّنا حاسماً بعشرات الأضعاف».
وكي لا ندخل في تشويشات قد تتسبّب بها التهديدات، من المفيد التأكيد على أنها واحدة من أخريات سبقت ما ورد أمس على لسان غانتس ونتنياهو، ومن أخريات ستعقبها أيضاً، وإن جاءت هذه المرة في سياق تهديد مقابل تثبيت معادلة «الرد بالمثل» على أي اعتداء إسرائيلي في لبنان، يتعلق تحديداً بالاعتداء على المدنيين اللبنانيين. أي أنها تأتي في سياق طمأنة المستوطنين أكثر من كونها تهديداً يتعلق بأفعال «إسرائيل» ومؤشراً عليها.
ومن دون ربط بتهديدات أمس، من المفيد الإشارة إلى مستويَين من أفعال «إسرائيل» وأقوالها، تحديداً تجاه الساحة اللبنانية، حيث تأثير الردع المتبادل كبير جداً. المستوى الأول يتعلق بتهديدات مرحلة اللاحرب، وهي التي تحكم الواقع الحالي بين الجانبين بمعادلات وقواعد اشتباك، تسمح للطرفين بإطلاق التهديدات والوعد بأفعال لاحقة مشروطة، إنْ أقدم الطرف الآخر على تجاوز قواعد الاشتباك. القصد هنا يكون ردعياً، ويشمل، بطبيعة الحال، محاولة تغيير المعادلات أو خرق قواعدها.
المستوى الثاني من التهديدات يرتبط بالحرب نفسها، في مرحلة الحرب أو المواجهات، ومن بينها «الأيام القتالية» التي من شأنها أن تنتقل إلى مواجهة واسعة.
التهديد في مرحلة اللاحرب يخدم المرحلة التي أُطلِق فيها، ولا ضرورة أن يكون مرتبطاً بمرحلة الحرب نفسها إنْ نشبت. ومعظم - إن لم يكن كلّ - ما ورد من تهديدات إسرائيلية طوال السنوات القليلة الماضية، ثبت أنه محاولة موجهة ومقصودة من تل أبيب لتجنّب الحرب ولخدمة تثبيت مرحلة اللاحرب. مع الإشارة هنا أيضاً إلى نوع آخر من التهديدات يهدف إلى «جس نبض» الطرف الآخر، وهو ما عاينه لبنان وإن بشكل محدود جداً في السنوات الماضية، وكانت إسرائيل تهدف من خلاله إلى التمهيد لمحاولة تغيير قواعد الاشتباك أو الحد من مفاعيله، من دون إرادة الحرب.
الثمن الذي يُقدَّر أن تدفعه «إسرائيل» هو الذي يردع أفعالها، لا الثمن المضاعَف الذي يمكنها أن تُلحقه بأعدائها


لدى نشوب الحرب، أو الأيام القتالية التي يُقدَّر أن تتسبب بحرب لا يريدها طرفاها، سيكون واضحاً أن الطرفين سيعملان على تجنّب إصابة أو استهداف عمديّ للمدنيين أو للقطاعات المدنية. وهي ميزة جديدة لم تكن موجودة في معادلات أيّ حرب بين «إسرائيل» والمقاومة اللبنانية، إذ كان استهداف مدنيين في لبنان من عدمه، بقدر أو بآخر، مرتبط بإرادة «إسرائيل»، من دون أيّ كوابح، الأمر الذي بات متعذراً في الحالة اللبنانية بعد الاقتدار الذاتي للمقاومة وقدرتها على إلحاق الأذى المقابل بالعدو. إلا أن الامتناع عن استهداف المدنيين، إنْ نشبت الحرب أو أيام قتالية محدودة الأهداف بنطاقها العسكري، لا يعني أن لا تنفلت الأمور لتداخل الشأنين المدني والعسكري إلى ما يقرب التلازم أو حتى التطابق، لدى الجانبين.
في السابق، كان تهديدات «إسرائيل» تخدم اتجاهين يتقاطعان في الأهداف، وهي بمجملها كانت تأتي خدمة لفرض إرادة العدو على لبنان. فإنْ تراجَع الجانب اللبناني تبعاً للتهديدات، تكون الإرادة الإسرائيلية فُرضت عليه. وإنْ امتنع عن التراجع، فتخدم التهديدات «إسرائيل» في أنها تمهّد الأرضية مسبقاً لعدوانها، كي تفرض إرادتها بالقوة العسكرية. والتاريخ مشبع بالمصاديق.
اللافت في أقوال نتنياهو أمس، بعيداً عن الصواريخ «البالغة الدقة»، وهو ما بات حديثاً ممجوجاً، أنه لم ينفِ حقيقة «الثمن المؤلم» في إطار المواجهة العسكرية مع لبنان، وإنْ هدَّد بأن ردّ «إسرائيل» سيكون مضاعفاً. وهي إشارة إلى أن رسالة «الرد بالمثل» كما أرسلها نصر الله وصلت بالفعل، وأن التهديد بـ«الثمن المؤلم» فعل فعله، رغم التهديد المقابل بأضعافه. علماً أن الثمن الذي يُقدَّر أن تدفعه «إسرائيل» هو الذي يردع أفعالها، لا الثمن المضاعَف الذي يمكنها أن تُلحقه بأعدائها. المسألة هنا ليست غلبة حسابية، بل هي في القدرة على تلقّي الثمن نفسه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا