الحديث عن الإصلاح والمحاسبة صار ممجوجاً. منذ عام حتى اليوم، لم يحصل أي تقدّم، لا سُجن لصٌ ولا كُشفت سرقة، ولا أُنجز إصلاح. عشرات القوانين «الإصلاحية» يتم تكديسها، لكنّ أيّاً منها لم يؤدّ إلى استرجاع قرش من الأموال المنهوبة المقدّرة بمليارات الدولارات. الطبقة الحاكمة، بسياسييها ومصرفييها وأصحاب ثرواتها، التي أفلست البلد توكل لنفسها مهمّة الخروج من الانهيار ومحاسبة نفسها! ثم يخرج من يُفاجأ بأن التدقيق الجنائي في مصرف لبنان لن يوصل إلى أي مكان. المشكلة الفعلية في من كان يعتقد أن التدقيق سيؤدي إلى كشف محتويات المغارة وما تختزنه من كنوز تقاسمتها الطبقة نفسها. النظام لم يتغيّر وأدواته لم تتغير.ولمن لا يعلم، تبيّن للبعض أن سبب فشل التدقيق (بانتظار ٣ تشرين الثاني موعد تسليم مصرف لبنان المعلومات التي طلبتها شركة «ألفاريز أند مارسال») ليس سوى تعارض العقد مع القوانين اللبنانية! هكذا ببساطة، تبيّن أن العقد الذي ينصّ بوضوح على أنه خاضع للقوانين اللبنانية (وخاصة قانونَي النقد والتسليف والسرية المصرفية)، يحمل في طياته أسباب فشله. السؤال البديهي: لماذا وُقّع العقد إذاً؟ ولماذا خُدع اللبنانيون مجدداً بالأمل؟ بدلاً من البحث عن الذرائع وتبنّيها، فليخرج أيّ من المسؤولين ليقول: لن أسمح لأحد بأن يلفّ الحبل حول رقبتي. فتح أبواب المصرف المركزي هو خط أحمر سياسي كبير، وإن أوحى الجميع عكس ذلك. التحقيق قد يبدأ في المصرف، لكن لا أحد يعرف أين سينتهي. ولذلك، تقرر التضحية بـ ١٥٠ ألف دولار هي حصة شركة ألفاريز في حال قررت الرحيل، لتعذّر حصولها على المعلومات التي طلبتها.
في الأساس، وبحسب مطّلعين على الملف، انتهى التدقيق تحديداً عدما تمّ تطيير شركة «كرول». منذ ذلك التاريخ، لم يعد مهماً النقاش في مضمون العقد، أو الخلافات التي قيل إنها نشأت بين رئاسة الجمهورية ووزارة المالية بشأن تفاصيل بعض البنود. اللافت أن الخلاف لم يطل إشكالية اليوم، المتعلقة باحترام القوانين اللبنانية. رئاسة الجمهورية لم تعترض على إدراج هكذا فقرة. كان ذلك بديهياً، إذ لا يعقل أن تُوقّع الدولة اللبنانية عقداً يتعارض مع القوانين المرعية. المشكلة كانت في مكان آخر. المُشكلة في اعتبار أن القوانين اللبنانية لا تسمح بالتدقيق في حسابات مشكوك بأمرها! وزير المالية نفسه سبق أن قال لـ«الأخبار» إن قانونَي السرية المصرفية و«النقد والتسليف» لا يشكلان عائقاً أمام التدقيق الجنائي، علماً بأن هذا الموقف يتعارض مع موقف مصدر معني في الوزارة، يشير إلى أن قانون النقد والتسليف يعطي مفوّض الحكومة لدى المصرف المركزي الحق بطلب البيانات المالية للمصرف، لكنه لا يلزمه تزويدها بمعلومات محمية بموجب قانون السرية المصرفية.
هذا يقود إلى سؤال عن دور وزارة المالية في إفشال التحقيق؟ فالعقد يشير بوضوح إلى أن الوزارة تتعهد ببذل قصارى جهدها للاستجابة أو للحصول على التعاون في الوقت المناسب من مصرف لبنان عند الاقتضاء للقيام بذلك. ويشمل ذلك، على وجه الخصوص، المعلومات المالية وكل المستندات ذات الصلة اللازمة لإنجاز المهمة المنصوص عليها في هذه الاتفاقية. هل قامت الوزارة بأكثر من تحويل طلبات الشركة إلى المصرف المركزي؟ وهل استعمل مفوض الحكومة لدى المصرف صلاحياته للحصول منه على المعلومات المطلوبة؟ تجربة كل من تعاقب على وزارة المالية تؤكد أن حاكم مصرف لبنان لم يكن يعير أهمية لمفوّض الحكومة ولا للمجلس المركزي ولا حتى لوزراء المالية. كان يدرك أنه فوق المحاسبة، ليس لشيء سوى لأن كل الطبقة الحاكمة كانت مستفيدة منه. وعلى ما يبدو، فإن دوره لم يتغيّر بعد، هو الذي لا يزال يحظى بحماية نبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط. ولذلك إذا قال إن التدقيق يتعارض مع القوانين اللبنانية لن يجد سلطة تفرض عليه تفسيراً مختلفاً. هو أفتى بأن هذا التدقيق يتعارض مع القوانين، وقد سلّم المستفيدون من خيراته برأيه. لا نقاش هنا في كون السرية المصرفية تتعلق بعدم إفشاء المعلومات الشخصية الخاصة بزبائن المصارف، ولا يمكن أن تشمل حماية العمليات التي نفذها مصرف لبنان.
هذه الذريعة سلّم بها النائب إبراهيم كنعان، أمس، معلناً، بعد اجتماع للجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة المال، أنه بعد سؤال ممثلي مصرف لبنان «تبيّن لنا أنه منذ اليوم الأول، كان معروفاً لدى الجميع أن هذا العقد الموقّع مع ألفاريز يخضع للقوانين اللبنانية التي لا تتيح للشركة إمكانية الدخول الى كل الحسابات بسبب السرية المصرفية».
لم يناقش أحد في اللجنة ممثلي المصرف في كيفية إقحامهم للسرية المصرفية في تحقيق لا يفترض أنه يطالها أصلاً. هيئة الاستشارات والتشريع، عندما وافقت على العقد، لم تتعامل مع ربطه بالقوانين اللبنانية بوصفه عائقاً أمام إنجاز التدقيق. في الأساس، لماذا يمكن للقانون أن يحمي عمليات مشبوهة؟ توصيات الهيئة، التي كان قد طلبها رئيس الجمهورية، أُخذ بها جميعها، بحسب وزير المالية، باستثناء تلك المتعلقة بتضمين العقد دعوة ممثل عن مجموعة «إيغمونت» ليكون على اطّلاع على مدى تقيّد هيئة التحقيق الخاصة بالقواعد الإلزامية لعملها والمفروضة من هذه المجموعة. إذ اعتبر وزني حينها أن الحكومة فوّضت وزير المالية التفاوض والتوقيع على عقد التدقيق الجنائي ولم تفوّضه التفاوض مع طرف ثالث.
كنعان سلّم بالذريعة التي ساقها مصرف لبنان لعدم الخضوع للتدقيق


التركيز على أن المشكلة بالقوانين اللبنانية لا بتمرّد سلامة على القوانين قاد كنعان إلى الكشف عن «مبادرة تشريعية لتصحيح هذا الخلل». وبحسب المعلومات، لا تبدو رئاسة الجمهورية بعيدة عن هذه المبادرة، انطلاقاً من إصرار رئيس الجمهوريّة على التدقيق الجنائي. ولذلك علمت «الأخبار» أن تكتّل لبنان القوي يتّجه لاقتراح قانون ينزع عن المصرف المركزي أي إمكانية لعرقلة التدقيق الجنائي، بحيث يمنع الاقتراح العاملين في الإدارة الرسمية من التذرّع بالسرّ المهني والسرية المصرفية لعدم تسليم أيّ مستندات تطلب في إطار أيّ تدقيق محاسبي.
بعيداً عن إمكانية إقرار هذا القانون من عدمه، فإن تحويل المسألة بهذا الاتجاه بدا بمثابة صك براءة لرياض سلامة، الذي لم يقم سوى بتنفيذ القانون! وفي ظل هذا الواقع، راسل وزير المالية هيئة التشريع والاستشارات، في ٢٠ تشرين الأول، طالباً منها، «بعد اللغط الذي أثير بشأن تعارض التدقيق الجنائي مع القوانين اللبنانية، تحديد مفهوم السرية المصرفية وفقاً للقانون الصادر في 3/9/1965 ولقانون النقد والتسليف، ومدى تلاؤم العمل المطلوب القيام به (عملية التدقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان) مع القوانين المرعية». بحسب مصادر مطّلعة، فإن الجواب أكد أن لا فرق بين السرية المصرفية والسرّ المهني للعاملين في القطاع المصرفي، وفي الحالتين لا يمكن لهذه السرية أن تحمي الجرائم والارتكابات. الأكيد أن هذا الرأي الاستشاري لن يكون مفاجئاً حتى لمن يعارضه. لكن يبقى التنفيذ. مصادر مسؤولة تحيل الأمر إلى القرار السياسي. وحده يمكنه أن يتحكّم بتفسير السرية المصرفية. وإذا كان سعد الحريري سبق أن جاهر بحماية رياض سلامة، فلن يكون صعباً الانقلاب على موقف هيئة الاستشارات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا