من يحاول وصف حراك 17 تشرين كظاهرة، إنّما يحاول القول بأنّ ما جرى ليس سوى هبّة غضب لا أكثر. وهذا الانطباع ربما كان مرغوباً عند قسم كبير من القوى السياسية التي بات تصنيفها في حكم القوى التقليدية، أو حتى عند قسم من الجمهور الذي يخاف التغيير. لكن ما جرى في 17 تشرين يمثّل انفلاتاً لغضب حقيقي موجود عند الناس من أشياء كثيرة تُختصر بفشل النظام، لكنه غضب يحتاج الى أدوات مختلفة للتعبير عنه. وفي حالة لبنان، يتخذ التعبير شكله الفوضوي المطابق لشكل الفوضى القائمة على صعيد المجتمع بفئاته كافة، بل بانحيازاته المبدئية التي تعكس الخلافات العميقة حول الهوية الوطنية. وبالتالي، فإن الخلل عند المتنفّذين في البلد يكمن في محاولتهم تصويره على أنه تحرك فئوي، أي أنه إما يعبّر عن أفكار تهدف الى تغيير النظام، مثل اتهامه باليسارية المتطرفة، أو يقصد بالفئوية الموضعية لناحية أن الاعتراض قائم على هذا الأمر أو ذاك لا أكثر. لكن الأخطر في التصنيف الفئوي اعتبار الحراك مطيّة للتعبير عن مطالب سياسية تخفي ميولاً يعود جذرها الى المشكلة الطائفية في البلاد. أي القول بأن المنتفضين إنما يعبّرون في حقيقة الأمر عن غبن يلحق بكتل طائفية أو مذهبية كبيرة أو أقلّوية، ويتخذ لبوس التحرك المطلبي لأجل جذب مؤيدين من الجمهور الآخر، بدل تنفيرهم. وبالتالي، فإن المشكلة في مقاربة ما حصل تعود أساساً الى التشخيص الذي لا أعتقد بأنه تمّ التوافق عليه بين جميع المعنيّين، من منتفضين ومن سلطة أيضاً.
(هيثم الموسوي)

لكن مشكلة التشخيص لا تعكس قلّة خبرة ولا قلّة معرفة الذي مِن المفترض أن يشكّلوا الجهة الأكثر التصاقاً بالحراك. إنما تعكس حالة الإنكار عند هذه القوى التي لا تصدّق أن القطار فاتها. إن طريقة تفكيرها ولغتها وشعاراتها وشخصياتها لم تعد صالحة لهذا الجيل. لن ينفع مع هؤلاء سوى علاج العلاقة بين الأهل والابناء، ساعة يقرّ الأهل بأنّ أبناءهم من جيل آخر: يعبّرون بطريقة مختلفة، لكنهم يطمحون الى أمور مختلفة أيضاً. إنّ تطلّب الجيل الجديد ليس فيه غرابة ولو كان غير واقعي. لكنه عاكس للحيوية المنطقية عند أبناء جيل جرّب فصلاً جديداً من الكذب اللبناني. سمع روايات عن هذا الكذب من الأهل، ولمس الأبناء نتائج هذا الكذب في التعب غير العادي الذي عاشه الأهل في تربيتهم، ثم جاءت اللحظات التي عاينوا فيها هذا الكذب بصوره الجديدة الأكثر وحشية وبشاعة. لكن، يصعب على الأهل في هذه اللحظة اعتبار تشخيصهم، ولو كان واقعياً أو صحيحاً، قابلاً أن يحوّلوه الى خطوة إلزامية على الأبناء اتّباعها.
الأهل هنا، هم كل الذين تعاقبوا على مواقع العمل القيادي في كل المؤسسات والجهات والأحزاب الفاعلة في البلاد. الأهل هنا، هم قادة الدولة المنتخبون أو المفروضون، هم المسؤولون عن مؤسسات الدولة المدنية والأمنية، الأهل هنا هم أرباب القطاع الاقتصادي والمالي والنقدي، وهم هنا أساتذة الجامعة والمدرسة وهم قادة وكوادر الأحزاب الرئيسيون. هم هنا طبقة المرشدين من رجال دين وزعماء عشائر وقبائل ووجهاء القوم، هم هنا الإخوة الكبار الذين يحنّ بعضهم الى زمن التعبير القوي بالرصاص، ويردّدون بغباء مفرط عبارة أن زمن الحرب لم يكن أكثر قساوة من هذا الزمن. وهؤلاء الأخيرون هم الذين يقدرون على المبادرة نحو الجيل الجديد، سواء بالمشاركة في أشكال الحراك أو تعبيراته. وخطورة هؤلاء أن كل ما يفكرون فيه هو ما يعرفون القيام به، أي البحث عن عناصر التعبئة والاستفزاز كوسائل أساسية لتشكيل جبهات القتال. وهؤلاء، هم الذين لا يمانعون لجوء الجيل الجديد الى الاستعانة بالشياطين من أجل تحقيق غايتهم. وهؤلاء هم الذين يشكّلون الوعاء المسهّل لفكرة التخلّي عن الدولة، لكنهم يعملون في هذه اللحظة عند من يريد تكريس قاعدة تقول بأن السلطة هي الدولة، وبأن إسقاط الدولة سيسرع إسقاط السلطة. وهو عين الخطأ في كل ما قام به المشرفون على هذا الحراك.
أنا شخصياً، أقدر في هذه اللحظات على ممارسة نقد ذاتي أساسه الإقرار بخطأ التصويب الكلي. أي خطأ تحميل كل من هو في الدولة مسؤولية الخلل والأخطاء. ما لجأنا إليه نحن في «الأخبار» أو في وسائل إعلام أخرى، من نقد مفتوح لكل ما يرد اسمه الى جانب السلطة - الدولة، تسبّب في خلق ثقافة لا تميّز بين السلطة والدولة. وبالتالي، فنحن نتحمّل جانباً من المسؤولية عن الرغبة الجامحة بتدمير الهيكل، علماً بأننا نعي، ليس الآن، بأن بناء السلطة البديلة لا يفترض تدمير هيكل الدولة، وأن التخلص من السلطة الحاكمة لا يوجب في كل الأمكنة نسف بنى الدولة، وإن كان مسار التغيير نفسه سيطيح معالم كثيرة من الدولة القديمة.
غيرنا، وهم كثيرون، يتحمّلون مسؤولية تجاهل التعقيدات الطائفية والمذهبية والجهوية والطبقية التي يتشكّل منها المجتمع في لبنان. هؤلاء هم الذين لم يتعلّموا من درس الانتفاضات العربية، واستسهلوا فكرة المواجهة المطلقة مع السلطة في حالة تطابقها مع الدولة. هؤلاء، أصلاً، كانوا الى جانب تدمير الدولة في مصر وسوريا واليمن وليبيا والعراق، ولا يهتمون إن جرى تدمير الدولة في لبنان أو حتى في دول أخرى. هؤلاء، أصفهم بالعاملين عند خارج عن وعي أو غير وعي. هؤلاء هم الذين لا يكترثون للتمييز الدقيق في حالة تحميل المسؤولية. هؤلاء هم من يرفع شعار «كلّن يعني كلّن»، وهؤلاء من لا يجيد التمييز أو لا يرغب بالتمييز، بين الهوية الوطنية وبين شكل الدولة والقوانين. ولأنهم صوّبوا منذ اللحظة الأولى على المقاومة بوصفها عائقاً أمام التغيير، فهم رأوا أن بناء الدولة يمكن أن يكون من دون هويّة وطنيّة. كذبوا عندما قالوا إنهم ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد الهيمنة الأميركية. وهم يعرفون أن مواجهة إسرائيل وأميركا لا تتم بحفلات وبيانات. وكذبوا أكثر عندما قالوا إنهم يريدون إصلاحاً شاملاً، لكنهم تصرفوا بدونية مخيفة إزاء العامل الخارجي. لم يتحرك هؤلاء أبداً، لا في مواقفهم ولا في شعاراتهم ولا في تظاهراتهم، من أجل تحميل الخارج المسؤولية عن دعم هذه السلطة الفاسدة. ولا هم أشاروا الى تأثيرات الضغوط والعقوبات والحصار على لبنان، ولا هم اهتموا أصلاً بأيّ خطاب محلي جامع. هذه الفئة من المنتفضين الذين يشكّلون الجسم الأكبر من منظمات غير حكومية، التي تم تأسيسها بقرار من الخارج أو بتمويل من الخارج، هم العدو الفعلي لأي حراك اجتماعي - سياسي يهدف الى تغيير للنظام نحو بناء دولة وطنية وعادلة.
لكن النكبة الإضافية، جاءت من القوى المتنفّذة نفسها. قادة القوى الحاكمة لم يسبق لهم أن تعرفوا على مبدأ المشاركة الفعلية. هم يعرفون مبدأ الصفقة في ما بينهم. ولأنهم يختزلون من مواقعهم السياسية والاجتماعية ما يعتبرونه الكتلة الشعبية الأكبر، لا يجدون في أي اعتراض سوى احتجاج أبناء في عمر المراهقة والتطلّب. هم لا يعرفون مطلقاً مدرسة التقاعد والابتعاد واستراتيجية الخروج من الحكم، أو حتى المراحل الانتقالية. ولأنهم كذلك، أصابتهم الصدمة عندما سمعوا الناس تشتمهم، وعندما شاهدوا الناس تحرق صورهم وترمي الطوب على مقارّهم، وعندما صاروا يخشون الخروج الى الشارع، ويتصرّفون مثل لص في الانتقال من مكان إلى مكان. ولجأوا الى العنف بواسطة أنصارهم ضد كل من يرفع صوته احتجاجاً. وهؤلاء، أعطوا الانطباع بأنّ الانقلاب هو الوسيلة الوحيدة لإبعادهم عن مواقع الحكم. وها هم، ما إن شعروا بأن الانتفاضة غير قادرة على خلق بديل حقيقي، حتى عادوا في لحظة واحدة إلى ما سبق من أساليب تفكير وعلاج ومقاربة وخطاب أيضاً. وهؤلاء يتصرفون اليوم بعنجهية غير مسبوقة وهم يبيعون البلاد للأميركي والفرنسي، وهم يحاولون فرض صيغة جديدة لصفقاتهم وهم يشكلون الحكومات، وهم أنفسهم الذين يعملون ليل نهار على تعزيز التعبئة العصبية بكل أشكالها الطائفية والمذهبية والمناطقية. لكنهم، وهم يعقلون ذلك، يستندون الى حليف كبير وقوي، هو المؤسسة الدينية، المنتشرة في كل البلاد، من الكنيسة المارونية التي تتبع وليّ فقيه في روما، ويديرها شيخ طريقة يحتاج الى دروس في العلم السياسي وعلم الاجتماع، الى دار الفتوى التي حوّلها القائمون عليها إلى مجرد لافتة يجري استخدامها في الحروب مع الآخر، إلى المجلس الشيعي الذي لم يُبقِ شيئاً لا من هيبة مؤسسة ولا من فكر مؤسسه، وتحوّل في خدمة المرجعية السياسية يرفع أو يخفض الصوت بحسب التطورات، وصولاً الى المؤسسة الدينية الدرزية التي يتواصل العراك حول شيخ عقلها، ولم تجر محاولة واحدة لمراجعة أي عقل يجب أن يديرها.
رفعوا شعار «كلّن يعني كلّن»، لكن لا بأس أن يكون بينهم كوادر وقادة ومموّلون من أركان السلطة نفسها

أما البقية، من المؤسسات الدينية، فتبدو ملحقة، لا تملك هوامش تمكّن من إعلاء صوت مختلف، أو قد أصابها الانقسام العام، مثل الكنيسة الأرثوذكسية التي يسودها التمييز العنصري بين لبنانيين وغير لبنانيين. وكل هذه المؤسسات بدت مستعدة لتقديم فروض الطاعة والولاء للسلطة الحاكمة. وكل العظات الاحتجاجية لا تعدو كونها مسايرة رجل الدين للرعية أو العوام الحاضرين الى دور العبادة. لكن الموقف الفعلي يتمثّل في كيفية تعامل هذه المؤسسات مع الحالات الحقيقية. الخط الأحمر حول رئيس الحكومة يصدر من دار الفتوى، والدفاع عن شرعية التمثيل الشيعي في وزارة المالية يخرج من المجلس الشيعي، أما مصير حاكم مصرف لبنان فلا يمكن بتّه من دون أخذ بركة سيد بكركي. فكيف الحال والصراع على محافظ بيروت أو ضباط في أركان الجيش أو الشرطة القضائية...
لكن، هل يمكن تبرير كل ما يقوم به الأبناء؟
بالطبع لا. لكن الحديث هنا ليس عن ميول وحماسة أفراد، بل عن عقل الكوادر الوسطى التي تولّت التنسيق والإدارة اليومية. هؤلاء الذين تصرفوا مثل هبّة المقاهي والملاهي الليلة. كل بيروت تعرف هذه الهبّة التي جعلت المدينة وضواحيها تمتلئ بهذا النوع من أماكن الراحة واللهو. وكلنا يعرف أن المؤسسين لهذه المؤسسات هم من هؤلاء الأبناء. هؤلاء الذين فقدوا العون في التخطيط، لكنهم رفضوا الإقرار بتجارب الآخرين. فصاروا ينتقلون من مشروع الى آخر، يخشون ويصبّون جام غضبهم على القوانين والأسواق والأهل والمموّلين. لكنهم يرفضون الإقرار بأن هذه الحرفة تحتاج الى خبرة. هم قرروا أن بمقدورهم إدارة مشاريع من هذا النوع. لمجرد أنهم زاروا ملهى أو مقهى في مدينة غربية أو في أي مكان من العالم، صاروا يعتقدون أن بالإمكان تكرار التجربة هنا. كحال الأثرياء الذين قرروا بناء بيوت على شكل قلاع لأنهم يعبّرون بذلك عن تمايزهم الاجتماعي، وخصوصاً عندما يكون النقص عندهم كبيراً في البنية الثقافية والفكرية والعلمية.
في حالة الانتفاضة - الثورة، استسهل هذا الجيل فكرة استخدام النماذج الخارجية. هم لا يعرفون حتى إسقاط النماذج التي تعلّموها أو شاهدوها على الواقع اللبناني. هم أوغلوا في اعتبار التواصل الافتراضي بديلاً من الأطر الحزبية والأهلية وخلافه. هم تصرّفوا وفق قاعدة أنه يكفي أن يكون لديك ناشط متحمس، ترافقه مجموعة من الشباب والصبايا يجيدون صوغ الشعارات ونشرها عبر مواقع التواصل، ثم يجدون شاشة انتهازية ترغب بأصحاب الأصوات المرتفعة، وأن هذا كافٍ لصناعة ثورة. وهؤلاء، كانوا قليلي الحكمة عندما مارسوا الاستراتيجية الخاطئة نفسها والمدمّرة للسلطة الحاكمة. اكتفوا بأنّ المركز هو الأساس. ساد التفكير الانقلابي عندهم عندما ظنّوا بأن احتلال وسط العاصمة يقود الى تسلّم السلطة. اكتفوا بفولكلور التظاهرات في بعض المناطق من أجل الصورة فقط. لكن هؤلاء، وعندما رفعوا شعار الانتخابات النيابية لم ينتبهوا إلى أن لحظة التصويت مختلفة عن لحظة التظاهرة، لم يفكروا أبداً في أن التعقيدات القائمة على صعيد المجتمع انتقلت إليهم أيضاً. مارسوا الإنكار في شأن التمييز الطائفي والطبقي والاجتماعي حتى بين المتظاهرين، وهم أكثر من أساؤوا القيام به. رفعوا شعار «كلن يعني كلن»، لكن، لا بأس أن يكون بينهم كوادر وقادة ومموَّلون من أركان السلطة نفسها... كيف يمكن لثائر يريد إسقاط النظام أن يقبل بوجود مؤسسات مثل القنوات التلفزيونية أو ما يسمّى بالمستقلين أو أركان المؤسسات الاحتكارية الكبرى كالجامعة الأميركية واليسوعية وقطاعاتهما الطبية والهندسية والقانونية في صلب حركتهم؟

ستظلّ الأرض خصبةً لأجل إطلاق الانتفاضة في لحظة مناسبة على صورة قابلة لإحداث تغيير كبير

كيف يمكن لثائر أن يحتفل بفوز نقيب للمحامين هو ابن أصيل للمؤسسة التي قام عليها لبنان؟ الرجل ليس فاسداً، وليس جزءاً من بنية الفساد. لكن وصوله الى موقع النقيب لم يكن ممكناً لولا تحالفات حقيقية وليست شكلية مع كتل وقوى لديها أصوات وازنة في النقابة. هل يعرف المتظاهرون أن مصرفيين أساسيين ساروا بينهم، وأن رجال أعمال كانوا في مقدمة الصفوف، وأن مرتزقة من نواب وقيادات سياسية كانوا يتحدثون باسمهم من دون اعتراض فعلي من قبلهم؟...
في نهاية الأمر، لن يكون صائباً أن يجري تخيير المرء بين موقفه من الشعار ومن الحراك في آن. صحيح أن الحركة المطلبية ضرورة ملحّة لمواجهة هذا النوع من السلطات. لكن الصحيح أيضاً، أنه لا يمكن الوثوق بأيٍ كان لقيادة هذا الحراك، فكيف إذا كنا نعلم تاريخ وحاضر وطموحات الغالبية منهم؟ وبالتالي، كان يجب الوقوف على الرصيف في اللحظات الأولى، لكن كان يجب الوقوف في مكان آخر في مرحلة ثانية. لأن من يعتقد أن السير في هذا النوع من الثورات سيوصل الى بلد آخر، فما عليه إلا مراجعة عام واحد من نتائج تفاعلات الحراك. والإحباط الكبير الذي يسود صفوف هؤلاء ليس من مسؤولية من رفض السير خلفهم، بل سببه الأوهام التي زرعت في رأس من أداروهم عن بعد أو عن قرب لا فرق.
لكنّ الأهم أنّ الحراك ليس ظاهرة عابرة، وأنه يمثّل حالة حقيقية وكبيرة وقوية، وستظل الأرض خصبة لأجل إطلاقه في لحظة مناسبة على صورة قابلة لإحداث تغيير كبير جداً، وعندما لن يكون انقسام اللبنانيين على النحو الذي نراه اليوم. ما جرى لم يكن حلماً ولا كابوساً. كان كلاكيت رقم مئة في تصوير فيلم إعادة بناء لبنان الجديد!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا